من أدب الدفاع المقدس عصفور مات فجراً
30-12-2018
طارق الغانمي
من أدب الدفاع المقدس
عصفور مات فجراً
دقّ ناقوس الخطر في قلب الخريف؛ ليلتهم جسد الربيع البض.. هبت الجموع غير مكترثة لما يحصل..
بينما هو كان يبكي كلما سنحت الفرصة لغيره.. فكان يبحث عن الفرص في محطات دراسته، وكراسي الانتظار، وغرف منزله، ليكتب ويدرس، كبر حلمه ليوقد منارة الفجر الجديد في بيته الصغير، الحصول على شهادة الطب لخدمة المجتمع.
ظل يحمل حقيبة الزمن، ومكبلات الأيام، ليسافرا معاً في ذاكرة الشهادة... اثنتا عشرة سنة قضاها وهو يصارع الذات من أجل أن يفوز بمعنى ما يشاهده، ليصالح كيانه الملتهب للنجاح، يطعم روحه الألم والسهر والجوع، يسكنها الممرات البعيدة، أقبية الوحشة، منافي الألم، الصبر المر والتعب.
:ـ لِمَ رحلت؟
.. جموع ألفت صوته، وألفت حضوره البهي.. الأصدقاء بجميع مراحل العمر، ورائحة خبز الطفولة.
لم يتعرف على الدنيا بعد، لم يُدرك محاسنها، ولم يتحسر على مساوئها؛ كان (أحمد(، صفحةٌ نقية، تعلو وجهه الأبيض عبارة عن علامة استفهام كبيرة، لطالما أحب الناس من حوله نظرات عينيه الواسعتين السوداوين، يُخبرانك أسرار الطفولة لو أنك فقهت ما تنسجان من قصص البراءة والحب والخيال، ويعلمانك كيف تسبر العيون أغوار الألم والأمل، ويرويان قلبك بالحنان والشفقة والرحمة.
قطع جزءاً من حياته الدراسية.. كان حلمه أن يصبح طبيباً، بالرغم من كرهه رؤية الدم.
ولماذا طبيب؟!
لأن أمه كانت تعاني من مرض عضال، حيث ألمها يؤلمه.
قدحت في دواخله لهب العزيمة والإصرار؛ لكي يكبر ويعالج مَنْ حملتْه تسعة أشهر، بيديه، ويخلصها من شدة ألم الليالي الطوال.
إيحاء الفكرة اخترق حلمه، فشعر بالتميز، وانطلق نحو الأفق، ذاك الإحساس المشع يجب أن لا يهمل، وهو دافع لإلهاب الخيال اليافع تجاه مستقبل تخبئه الأيام الحبلى..!
أخذ ينهل من العلم، ويزداد نهماً للقراءة..
بدأ يظهر ويكبر..
لم يقف شيء في طريق خطواته، ولم يحاول تحجيم أحلامه إطلاقاً، بالرغم من والده لم يكن متعلماً بما يكفي، لكن حكمة الأيام والتجارب كانت مدرسة طالما أخذ منها وعانى من مرارتها.
عقله بدأ يسابق جسده في النمو.. لدرجة اغتال لهو الطفولة البريء، إلى جد الرجولة الجريء.
قرأ وسهر.. اتسعت أفكاره، وكلما نضج علم أن هناك هدفاً لم يبلغه بعد..
أحمد.. ذاك الطفل الذي أصبح طبيباً، عالي الهمة... لم يلزم نفسه بأكبر من طاقته.
من يعرف أن هذا الطبيب اختار الشهادة متطوعاً في سبيل الله تعالى بدلاً من شهادة الطب، ناهلاً من معين نهر الفرات العزيمة الصلبة المتطبعة بالطبع الجنوبي فهو ابن ذي قار.
أحمد كان يحلم بالبدلة البيضاء وسماعة التشخيص مثل أي طبيب...
تطوع فتحولت البدلة إلى بزة عسكرية، تدافع عن حدود وطن اغتصبها شذوذ الآفاق.
:ـ كم عمره؟
:ـ لا تنظر إلى السنوات بل انظر إلى حكمته التي تجاوزت سنواته التسعة عشر ربيعاً، والتي أمضاها في طلب العُلا وسهر الليالي... حكمته التي اهلته ليتخرج من الاعدادية بمعدل (98)٪ ليدخل كلية الطب... وقد أعدته مؤهلاته طبيباً فطناً ليحقق رغبته في معالجة أمه وفقراء الناس مجاناً.
وفي إحدى زياراته إلى كربلاء وإذا تهل عليه رؤيا مباركة تطل من خلالها سيدة الصبر زينب عليها السلام وهي أسيرة تومئ للنصرة كل عباس، فجلس مرتعبا وهو يصرخ:
لبيك سيدتي .. لبيك سيدتي..
كان طبيب الغد يعيش في مرحلته الأولى مستغرقاً في تأملاته التشخيصية ليدرك من خلالها علة الإنسان ومكمن كراماته، وأدرك قيمة روح التضحية التي تصله بالركب الحسيني المبارك عبر يقين الفعل الجوهري، فلهذا حمل الشهادة الجامعية أصابعاً تضغط على زناد الكرامة ليقدح غضب الغيرة عنفواناً بالدفاع عن بلده، وهو يصيح:
لا يمكن للتاريخ أن يدون بيراعات الحاقدين.. مشهد سبي جديد.. وذراع أبي الفضل عليه السلام تنامى في سواعد الموالين سيوفاً لا تلين.. تعهد أن لا يضع السلاح من يديه إلا بعدما يطل السلام على ربوع العراق.
السلام عليك سيدتي يا زينب بنت أمير المؤمنين (سلام الله عليه).. وإذا برؤيا أخرى تقف أمامه في جبهات القتال وهي تومئ إلى جانب الفرات، وكأنها تريد أن تقول له: أدرك مولاك الحسين عليه السلام كي لا تسحق سنابك الخيل مرقده الشريف، استنطق كل حرف، وكل مدرسة تخرج منها، وكل صف ورحلة وسبورة، وكل قلم ومداد وقرطاس، وكل شهادات العالم لا يمكن أن تغنية عن نصرة يتقرب بها إلى الركب الحسيني إلى أكبر جامعات العالم علماً وإيماناً وتقى مدرسة سيد الشهداء عليه السلام وركبه الميمون حمل الطبيب أحمد سلاحه روحاً وبندقية؛ ليحصل على شهادة العشق الإلهي مع الحسين عليه السلام .
تاركاً خلفه آثاراً ستبقى حية، تستثير الضمائر الحرة، والقلوب الواعية، وقد تؤول إلى صناعة أجيال ثائرة ...أحمد الوائلي حصل على الدكتوراه شهيداً لتبقى دماؤه نبراساً ينير الحياة للآخرين ووطناً للمعلمين.