مقاتلو الدفاع المقدس يزرعون ثقافة الحب والتسامح
30-12-2018
طارق الغانمي
مقاتلو الدفاع المقدس
يزرعون ثقافة الحب والتسامح
الأنبار أكبر المدن العراقية مساحة، وثاني مدينة يسيطر عليها تنظيم (داعش) بعد مدينة الموصل، وينظر إليها على أنها عاصمة (داعش).
ومن قلب هذه المدينة )الفلوجة)، كانت تنطلق العمليات الإرهابية والسيارات المفخخة، لتهدد أمن العاصمة بغداد والمدن المجاورة لها، وكانت أداة تمزيق للجسد العراقي الجريح.
وهذه المدينة تملك معبرين حدوديين مع سوريا والأردن، وكل من يريد السفر لا بد له من المرور عبرهما، وخلال أكثر من عقد من الزمن، ذهب الكثير من المسافرين أدراج الرياح، وباتوا في خبر كان؛ بسبب وحشية الدواعش القاطنين في هذه المدينة الذين هم من بقايا عناصر النظام البعثي المنحل، وبقايا تنظيم «القاعدة» الإرهابي، الذي تحوّل باتجاهٍ أكثر دمويةً ووحشيةً، مع استقطاب عناصر جديدة، من أكثر من خمسين دولة، تم تمويل حركة تنقلاتهم وتسهيل دخولهم إلى الأراضي العراقية، لتنفيذ أجندات دول كبرى.
وحين سيطر تنظيم داعش على مدينة الموصل قبل عامين، تفكّك الجيش العراقي وانسحب دون قتال، ليسقط ثلث أراضي الدولة خلال يومين. واستخدمت هذه العناصر الاجرامية التكفيرية أسلوب (الصدمة والترويع)؛ لإرعاب الأطراف الأخرى وشلّ حركتها، مستخدمة أبشع طرائق القتل والذبح والإغراق والحرق، مع الحرص على تصوير كل هذه الجرائم البشعة، وبتقنية عالية، لتأخذ طريقها لوسائل الإعلام، وتؤتي مفعولها في الحرب النفسية.. وهو ما نجح فيه داعش في الأسابيع الأولى إلى حد كبير، حيث بات يهدّد بإسقاط بغداد خلال فترة وجيزة، لولا فتوى المرجعية الدينية العليا بإعلان الوجوب الكفائي الذي أنقذ الوضع، وحافظ على كيان الدولة العراقية ووجودها، وإلا كان السيناريو الآخر: سيطرة «داعش» على العراق، وتمدّده ليهدّد الدول الأخرى.
وبعد انطلاق عملية تحرير الفلوجة في الخامس عشر من شعبان بقرار عراقي بحت، أحسنت فيه القيادة العراقية صنعاً بإدارة المعركة حتى الآن، حيث ظهر التوافق والانسجام التام بين الدولة وكافة تشكيلات الدفاع المقدس، على ضرورة إكمال المعركة وتحرير مدينة الفلوجة بالكامل من براثن الارهاب والعناصر التكفيرية والبعثية المتواجدة فيها.
ومن أهم ما كشفت عنه المعركة حتى الآن، وجود تحوّل في قناعات الشارع الذي اكتشف تلاعب ساسة المناطق المنكوبة بـ(داعش)، بمصير مواطنيهم.. حتى الحاضنة الشعبية تغيّر موقفها بعد تجربة العيش المرير تحت حكم هذه الزمرة المرتزقة، لما لاقوه من أحكام تعسفية ومرارة وشظف عيش واستبداد.. وفي المقابل أحسنت قيادات الميدان المتمثلة بأبناء القوات الأمنية والدفاع المقدس بالتواصل مع السكان، والمحافظة على أرواحهم، وبعث رسائل طمأنينة، مع إشراك الأهالي في الدفاع المقدس؛ لاسترجاع مناطقهم من سيطرة التنظيم الدموي.
كما أفرزت هذه المعركة عدة صور إنسانية لأبناء العراق الغيارى في كيفية التعامل مع النازحين، بثتها وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة منذ انطلاق عملية التحرير إلى الآن، وشاهدنا بأمّ أعيننا كيف تم إنقاذ العوائل النازحة من وسط وأطراف الفلوجة، ونسوا أو تناسوا الحيف والضيم الذي لاقوه من أهالي هذه المدينة التي اتخذها الدواعش وكرا ومنطلقا لعملياتهم الارهابية في عراقنا الحبيب.
هذا المبدأ الإنساني الذي قاموا به هؤلاء الأبطال منطلق بالإساس من مبدأ الإمام الحسين عليه السلام وطريقة تعامله مع أعدائه الذين جاؤوا لقتاله، حين سقاهم الماء هم وخيولهم، في وقت كانوا عطاشى متعبين في يوم قائظ شديد الحر.
وإن العفو هو أمر ضروري لا يمكن أن نتصور مجتمعاً متطوراً ومنظماً من دون أن يعتمد على هذا الأساس في التعامل، فالتسامح مقوّم أساسي لكل مجتمع إنساني ناهض.
وهو أمر لابد منه لتسود المحبة والمودة بين الجميع.. نحتاج إلى تلطيف الجو، وأن ندعو إلى عدم المواجهة، ونبذ العنف والثارات، وأن يكون المنهج الذي نعمل به، ولغة التسامح هي ألطف شيء في الحياة، لازدهار الوطن والمواطن.
فكل السجايا الأخلاقية لها انعكاسات إيجابية طيبة على الفرد والمجتمع، وإن شيوع هذه الثقافة في الحرب يؤدي إلى شيوع الأمن في المجتمع؛ لأنّه يساهم بشكل كبير في تقليل العنف أو عدم اللجوء إلى العنف كحل للمشكلة وكمخرج مؤقت للموقف، ولعل هذا الأمن هو أهم احتياجات الفرد سواء في السلم أو الحرب.
فلغة التسامح من صفات المؤمنين، فقد أوصانا الله (عز وجل) ورسوله الكريم صلى الله عليه واله وسلم وأهل البيت عليهم السلام بالتسامح، ويجب علينا التحلي به، وأن ننسى الأذى لكي نبدأ حياة جديدة خالية من أي حقد؛ لأن البشر خطاؤون، ويحتاجون كثيراً إلى من يصفح عنهم، ليصنع بذلك معروفاً يدينون له به أبداً.
والتسامح هو الممحاة التي تزيل آثار الماضي المؤلم، قال تعالى: (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتقوَى) (البقرة/ 137)، وقال صلى الله عليه واله وسلم: ((أفضل أخلاق أهل الدنيا والآخرة أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك)).
وهذا ما قام به رجال دفاعنا المقدس من حُسن المعاملة في الحرب، ولين الجانب مع الأعداء، والرحمة بالنساء والأطفال والشيوخ، والتسامح مع المغلوبين، لا تستطيع كل أُمة أن تفعله، ولا يستطيع كل قائد حربي أن يتصِف به، وهنا يضع التاريخ إكليل الخلود على أبناء هذا المكون الشريف؛ عسكريين ومدنيين، فاتحين وحاكمين؛ إذ انفردوا من بين عظماء الحضارات كلها بالإنسانية الرحيمة العادلة في أشد المعارك احتدامًا، وفي أحلك الأوقات التي تحمل على الانتقام والثأر وسفك الدماء، وأُقسِم لولا أن التاريخ يتحدث عن هذه المعجزة الفريدة في تاريخ الأخلاق الحربية بصدق لا مجال للشكِ فيه لقلت إنها خرافة من الخرافات وأسطورة لا ظل لها على الأرض.
وهذه من محاسن الأخلاق؛ يُشفِقون على ظالمهم، ويصفحون لمن جهل عليهم؛ يطلبون بذلك ثواب الله تعالى وعفوه.. فشكراً لكم يا أبناء علي والحسن والحسين على هذه الأخلاق الطيبة.. تلك التي لا تُلغي الشرف في الخصومة، أو العدل في المعاملة، ولا الإنسانية في القتال أو ما بعد القتال.