استشهاد الإمام علي عليه السلام
30-12-2018
جمال الطالقاني
استشهاد الإمام علي عليه السلام
قال الله تعالى: (مِنَ المُؤمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) (الأحزاب/23).
أخبر رسول الله صلى الله عليه واله وسلم علياً بأنه يفوز بالشهادة في سبيل الله تعالى، ففي يوم أُحد تأسف الإمام أمير المؤمنين عليه السلام على حرمانه الشهادة في ذلك اليوم، فقال له النبي صلى الله عليه واله وسلم: إنها من ورائك.
ويوم الخندق لما ضربه عمرو بن عبد ود على رأسه، كانت الدماء تسيل على وجهه الشريف، فقام رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يشد جرحه ويقول له: أين أنا يوم يضربك أشقى الآخرين على رأسك ويخضب لحيتك من دم رأسك؟
سأل الإمام علي عليه السلام رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: ما أفضل الأعمال في هذا الشهر الكريم؟ فقال: الورع، ثم بكى النبي فقال عليه السلام : ما يبكيك؟ فقال: أبكي لما يستحل منك في هذا الشهر..! كأني بك وأنت تصلي لربك، وقد انبعث أشقى الأولين والآخرين شقيق عاقر ناقة ثمود، فضربك ضربة على قرنك فخضب منها لحيتك، قال الإمام: وذلك في سلامة من ديني؟ فقال: في سلامة من دينك... الخ. (حياة أمير المؤمنين عليه السلام عن لسانه: ج1/ ص239).
وحينما أتاه عبد الرحمن بن ملجم ليبايعه نظر عليّ في وجه طويلاً، ثم قال: أرأيتك إن سألتك عن شيء وعندك منه علم هل أنت مخبر عنه؟ قال: نعم، وحلفه عليه فقال: أكنت تواضع الغلمان، وتقوم عليهم، وكنت إذا جئت فرأوك من بعيد قالوا: قد جاءنا ابن راعية الكلاب؟ فقال: اللهم نعم.
فقال له: مررت برجل وقد أيفعت (صرت يافعاً) فنظر إليك نظراً حاداً فقال: أشقى من عاقر ناقة ثمود؟ قال: نعم قال: قد أخبرتك أمك أنها حملت بك في بعض حيضها؟ فتعتع هنيئة ثم قال: نعم.
فقال الإمام: قم فقام، قال عليه السلام : سمعت رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يقول: (قاتلك شبه اليهودي بل هو اليهودي).
وقد تكرر منه عليه السلام أن رأى ابن ملجم فقال: أريد حياته ويريد قتلي، وفي تلك السنة الأخيرة من حياته والشهر الأخير من حياته كان يخبر الناس بشهادته فيقول: ألا وإنكم حاجوا العام صفاً واحداً، وآية (علامة) ذلك أني لست فيكم.
فعلم الناس أنه ينعى نفسه، ولم يكتفِ عليه السلام بذلك بل كان يدعو على نفسه ويسأل من الله تعالى تعجيل الوفاة، وتارة كان يكشف عن رأسه وينشر المصحف على رأسه ويرفع يديه للدعاء قائلاً: اللهم إني قد سئمتهم وسئموني ومللتهم وملوني، أما أن تخضب هذه من هذا.. ويشير إلى هامته ولحيته.
وفي الليلة التاسعة عشر، كان الإمام عليه السلام في دار ابنته أم كلثوم فقدمت له فطوره في طبق فيه: قرصان من خبز الشعير، وقصعة فيها لبن حامض، فأمر الإمام ابنته أن ترفع اللبن، وأفطر بالخبز والملح، ولم يشرب من اللبن شيئاً؛ لأن في الملح كفاية، وأكل قرصاً واحداً، ثم حمد الله وأثنى عليه، وقام إلى الصلاة، ولم يزل راكعاً وساجداً ومبتهلاً ومتضرعاً إلى الله تعالى، وكان يكثر الدخول والخروج وينظر إلى السماء ويقول: هي، هي والله الليلة التي وعدني بها حبيبي رسول الله.
فلما وصل إلى الباب فعالجه ليفتحه، فتعلق الباب بمئزره فانحل مئزره حتى سقط فأخذه وشده وهو يقول:
أشدد حيازيمك للموت
فإن الموت لاقيكــــــــــــــــا
ولا تجزع من المــــــــــوت
إذا حــلّ بناديكـــــــــــــــــا
كمـــا أضحكك الدهــــر
كذاك الدهر يبكــيكــــا
ثم قال: اللهم بارك لنا في الموت، اللهم بارك لنا في لقائك، قالت أم كلثوم: وكنت أمشي خلفه فلما سمعته يقول ذلك قلت: وا غوثاه يا أبتاه أراك تنعى نفسك منذ الليلة قال: يا بنية.. إنها دلالات وعلامات للموت يتبع بعضها بعضاً.. فجئت إلى أخي الحسن عليه السلام فقلت: يا أخي قد كان من أمر أبيك الليلة كذا وكذا وهو قد خرج في هذا الليل فالحقه، فقام الحسن بن علي عليه السلام وتبعه فلحق به قبل أن يدخل الجامع فأمره الإمام بالرجوع فرجع.
وأما عدو الله: عبد الرحمن بن ملجم فكان على رأي الخوارج، وكانت بينه وبين قطام حب وغرام، وقطام قد قتل أبوها وأخوها وزوجها في النهروان، وقد امتلأ قلبها غيظاً وعداءً لأمير المؤمنين وأراد ابن ملجم أن يتزوجها فاشترطت عليه أن يقتل أمير المؤمنين عليه السلام فاستعظم هذا الأمر وطلبت منه ثلاثة آلاف دينار وعبداً وقينة (جارية) وينسب إليه هذه الأبيات:
فلم أر مهراً ساقه ذو سمـــاحة
كمهر قطام من فصيح وأعجم
ثــــــــــلاثة آلاف وعبد وقيـــنــــــة
وضرب علي بالحسام المصمم
وسار الإمام إلى المسجد فصلى في المسجد، ثم صعد المئذنة ووضع سبابته في أذنيه وتنحنح، ثم أذن، فلم يبق في الكوفة بيت إلا اخترقه صوته، ثم نزل عن المئذنة وهو يسبح الله ويقدسه ويكبره، ويكثر من الصلاة على النبي صلى الله عليه واله وسلم، وكان يتفقد النائمين في المسجد ويقول للنائم: الصلاة، يرحمك الله، قم إلى الصلاة المكتوبة ثم يتلو: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ).
لم يزل الإمام يفعل ذلك حتى وصل إلى ابن ملجم وهو نائم على وجهه وقد أخفى سيفه تحت إزاره فقال له الإمام: يا هذا قم من نومك هذا فإنها نومة يمقتها الله، وهي نومة الشيطان، ونومة أهل النار بل نم على يمينك فإنها نومة العلماء، أو على يسارك فإنها نومة الحكماء، أو نم على ظهرك فإنها نومة الأنبياء.
نعم، الشمس تشرق على البر والفاجر، والإمام أمير المؤمنين عليه السلام يفيض من علومه على الأخيار والأشرار، وينصح السعداء والأشقياء، ولا يبخل عن الخير حتى لأشقى الأشقياء، ويرشد الجميع حتى قاتله..!! ثم قال له الإمام: لقد هممت بشيء تكاد السماوات أن يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً، ولو شئت لأنبأتك بما تحت ثيابك ثم تركه، واتجه إلى المحراب، وقام قائماً يصلي، وكان عليه السلام يطيل الركوع والسجود في صلاته، فقام المجرم الشقي لإنجاز أكبر جريمة في تاريخ الكون..!! وأقبل مسرعاً يمشي حتى وقف بإزاء الاسطوانة التي كان الإمام يصلي عليها، فأمهله حتى صلى الركعة الأولى وسجد السجدة الأولى، ورفع رأسه منها فتقدم اللعين وأخذ السيف وهزه ثم ضربه على رأسه الشريف فوقعت الضربة على مكان الضربة التي ضربه عمرو بن عبد ود العامري.
فوقع الإمام على وجهه قائلاً: بسم الله وعلى ملة رسول الله ثم صاح الإمام: قتلني ابن ملجم قتلني ابن اليهودية، أيها الناس لا يفوتكم ابن ملجم.. وعوضاً من التأوه والتألم والتوجع كان يقول (صلوات الله عليه): فزت ورب الكعبة..! هذا ما وعد الله ورسوله..! وصدق الله ورسوله..! استولت الدهشة والذهول على الناس، وخاصة على المصلين في المسجد، وفي تلك اللحظة هتف جبرائيل بذلك الهتاف السماوي.
فاصطفت أبواب الجامع وضجت الملائكة في السماء بالدعاء وهبت ريح عاصف سوداء مظلمة ونادى جبرائيل بين السماء والأرض بصوت يسمعه كل مستيقظ: تهدمت والله أركان الهدى وانطمست والله نجوم السماء وأعلام التقى وانفصمت والله العروة الوثقى قتل ابن عم محمد المصطفى صلى الله عليه واله وسلم قتل الوصي المجتبى قتل علي المرتضى، قتل والله سيد الأوصياء، قتله أشقى الأشقياء.
ولم يطق الإمام على النهوض، وتأخر عن الصف وتقدم الحسن عليه السلام فصلى بالناس، وأمير المؤمنين عليه السلام صلى إيماء من جلوس وهو يمسح الدم عن وجهه وكريمته يميل تارة ويسكن أخرى والحسن عليه السلام ينادي: واانقطاع ظهراه..! يعز والله عليّ أن أراك هكذا.. ففتح الإمام عليه السلام عينه.
وقال: يا بني لا جزع على أبيك بعد اليوم..! هذا جدك محمد المصطفى وجدتك خديجة الكبرى وأمك فاطمة الزهراء والحور العين محدقون فينتظرون قدوم أبيك، فطب نفساً وقر عيناً وكف عن البكاء، فإن الملائكة قد ارتفعت أصواتهم إلى السماء.