اهْدِنَا / المَفهومُ القُرآني

30-12-2018
مرتضى علي
اهْدِنَا / المَفهومُ القُرآني

مما يميز القُرآنُ الكريم كليّاً عن غيره, هو أنّه ليس كتاباً تدوينياً صرفاً من الممكن الاستغناء عنه، أو الرجوع إليه وقت الحاجة, بل هو كتابٌ ارشادي وتشريعي مُلزِمٌ جَعلاً واستدامةً لكلّ مُسلمٍ.
وما ينبغي بنا هو أنْ نقفَ فهماً ووعياً عند كلَّ آيةٍ بحسب المقدور عرفاً ولغةً وعقلاً, حتى يتسنى لنا ادراك غرض القرآن وحكمته من صناعته للمفاهيم الحقيقية ذات الآثار الحياتية للإنسان من قريب أو من بعيد، كما هو الحال في مفهوم (الهداية) والذي جاء بلسان الإنشاء الطلبي مجازاً وبصورة الأمر بنحو الدعاء من الأدنى (الإنسان) إلى الأعلى (الله تعالى)، في قوله تعالى: ((اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)) (الفاتحة: 5).
والهداية مفهوماً تحتمل معنيَّن هما:
أولاً: الكشف طريقاً لطالب الاهتداء من أول الأمر، والشروع كشفاً وتدليلاً وإرشاداً ابتدائياً وإحداثياً، يستدعي الوصول الى المطلوب قطعاً، إذا ما التزم طالب الهداية بالسلوك والاهتداء.
ثانياً: الإيصال إلى المطلوب طريقا وسلوكاً بمعنى أنَّ الهادي (الله تعالى أو المعصوم) يتكفل بطالب الاهتداء هدايةً ووصولاً، إحداثاً وإبقاءً.
إنَّ مفهوم اهْدِنَا في سورة الفاتحة يُقدِّم للمتلقي والمؤمن دلالات واعيّة تربط بين الدال (الله تعالى) والمدلول إليه (الله تعالى) حقيقةً وواقعاً بخلاف أيِّ دلالة أخرى، فالذي يُطلبُ الاهتداء به هو عينه وذاته الدال والمدلول إليه (الله تعالى وتمثلات هدايته: كالصراط المستقيم المجعول إلهيّا بصورة عقيدة وشريعة ومعصوم، وبوصفها مُوصِلة الى الله تعالى يقيناً).
وبعبارة أخرى، أنَّ طالب الهداية (الإنسان) يطلب من نفس الهادي (الله تعالى) الدال أنْ يهديه إليه (وهو عينه الله تعالى المدلول إليه)؛ ذلك بالكون تحققاً ووجوداً في الصراط المستقيم من أول الطلب حتى الوصول إلى المطلوب، مما يعني أنّ مفهوم الهداية هو مفهوم مُشكِّك يستبطن المراتبية والمراحلية كماً وكيفاً ونوعاً، ولا يأتي دفعةً واحدةً بل يستلزم النمو والزيادة بقدر مقدار الاهتداء: ((وَيَزِيدُ اللَّهُ الذِينَ اهتَدَوا هُدًى وَالبَاقِيَاتُ الصالِحَاتُ خَيرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيرٌ مَرَدًّا)) (مريم: 76).
((إِنَّهُمْ فِتيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِم وَزِدنَاهُم هُدًى)) (الكهف: 13).
وكدليلٍ على هذا الفَهَم القُرآني هو جعل الشريعة سورة الفاتحة من السور الواجب قراءتها في كل صلاة واجبة ومُستحبة خاصةً الصلوات اليومية، ابتداءً من تكليف الإنسان وحتى آخر وفاته (لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب)، قراءةٌ تمسُ القصدَ القرآني في سنخ العقيدة والتشريع، وبوصف سورة الفاتحة سورةً جامعة لأصول الدين والشريعة ومانعة من أصول الزيغ والضلال.
نعم، لابد للهداية من مُتعلِّق خارجي ووجودي قريبٌ من الطالب إدراكاً وحسّاً ووعياً... لذا، جاء التدليل القرآني بالكشف عن ذلك المتعلّق الخارجي بلسان الصراط المستقيم والذي هو مفهوم دقيق وكنائي يتمثّل بشخص المعصوم وشرعته ومنهاجه، وهو أيضاً دالٌ ومدلولٌ إليه تنزلاً وتجليّاً.
دالٌ على الله تعالى من الأدنى إلى الأعلى، ومدلولٌ إليه من قبل الدال الحقيقي (الله تعالى) والمطلوب بلسان (اهْدِنَا) من أول الأمر.
قال اللهُ تعالى: ((وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا))(66).
((وَإِذًا لَآَتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا))(67).
((وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا)) (68).
((وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النبِيِّينَ وَالصدِّيقِينَ وَالشهَدَاءِ وَالصالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا)) (النساء: 69).