البقيع:
بقعة شريفة طاهرة في المدينة المنوّرة، قرب المسجد النبوي الشريف، ومرقد الرسول الأعظم صلى الله عليه واله وسلم ، فيها مراقد الأئمّة الأربعة المعصومين من أهل بيت النبوّة والرسالة عليهم السلام، وهم: الإمام الحسن المجتبى، والإمام علي زين العابدين، والإمام محمّد الباقر، والإمام جعفر الصادق عليهم السلام، وكذلك تحتضن مجموعة من شهداء صدر الإسلام وأولاد النبي صلى الله عليه واله وسلم وزوجاته إلاّ خديجة، وعماته، وعمه العباس وحاضنته فاطمة بنت أسد، ومرضعته حليمة السعدية، وعدداً كبيراً من الصحابة والتابعين، وكبار القراء وحفظة القرآن والسادة الهاشميين، ونقل أنه دفن في البقيع عشرة آلاف من الصحابة من المهاجرين والأنصار.
وكان الرسول صلى الله عليه واله وسلم يزور البقيع، فقد ورد في (صحيح مسلم رقم 974): إن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم كان يخرج من آخر الليل إلى البقيع، فيقول: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وأتاكم ما توعدون، غداً مؤجلون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد".
جريمة آل سعود:
بعدما استولى آل سعود على مكّة المكرّمة، والمدينة المنوّرة وضواحيهما، عام (1344هـ)، بدؤوا يفكّرون بوسيلة ودليل لهدم المراقد المقدّسة في البقيع، ومحو آثار أهل البيت عليهم السلام والصحابة.
وخوفاً من غضب المسلمين في الحجاز، وفي عامّة البلاد الإسلامية، وتبريراً لعملهم الإجرامي المُضمر في بواطنهم الفاسدة، استفتوا علماء المدينة المنوّرة حول حرمة البناء على القبور.
فكتبوا استفتاءً ذهب به قاضي قضاة الوهّابيين سليمان بن بليهد مستفتياً علماء المدينة، فاجتمع مع العلماء أوّلاً وتباحث معهم، وتحت التهديد والترهيب وقّع العلماء على جواب نُوّه عنه في الاستفتاء بحرمة البناء على القبور، تأييداً لرأي الجماعة التي كتبت الاستفتاء.
واستناداً لهذا الجواب اعتبرت الحكومة السعودية ذلك مبرّراً مشروعاً لهدم قبور الصحابة والتابعين، وهي في الحقيقة إهانة لهم ولآل الرسول صلى الله عليه واله وسلم ، فتسارعت قوى الشرك والوهّابية إلى هدم قبور آل الرسول صلى الله عليه واله وسلم في الثامن من شوّال من نفس السنة، أي عام (1344هـ) فهدّموا قبور الأئمّة الأطهار والصحابة في البقيع، وسوّوها بالأرض، وشوّهوا محاسنها، وتركوها معرضةً لوطئ الأقدام، ودوس الكلاب والدواب، ونهبت كلّ ما كان في ذلك الحرم المقدّس من فرش وهدايا، وآثار قيّمة وغيرها، وحوّلت ذلك المزار المقدّس إلى أرض موحشة مقفرة.
وبعدما انتشر خبر تهديم القبور، استنكره المسلمون في جميع بقاع العالم، على أنّه عمل إجرامي يسيء إلى أولياء الله، ويحطّ من قدرهم، كما يحطّ من قدر آل الرسول صلى الله عليه واله وسلم وأصحابه.
نشرت جريدة أُمّ القرى بعددها (69) في (17شوّال 1344هـ) نص الاستفتاء وجوابه، وكأن الجواب قد أُعدّ تأكيداً على تهديم القبور، وحددت تاريخ صدور الفتوى من علماء المدينة بتاريخ (25رمضان 1344هـ)، امتصاصاً لنقمة المسلمين، إلاّ أنّ الرأي العام لم يهدأ، لا في داخل الحجاز ولا في العالم الإسلامي، وتوالت صدور التفنيدات للفتوى ومخالفتها للشريعة الإسلامية.
فأين كان علماء المدينة المنوّرة عن منع البناء على القبور؟ ووجوب هدمه قبل هذا التاريخ؟! ولماذا كانوا ساكتين عن البناء طيلة هذه القرون من صدر الإسلام، وما قبل الإسلام، وإلى يومنا هذا..؟!
ألم تكن قبور الشهداء والصحابة مبنياً عليها؟ ألم تكن هذه الأماكن مزارات تاريخية موثّقة لأصحابها، مثل مكان: مولد النبي صلى الله عليه واله وسلم ، ومولد فاطمة عليها السلام ، وقبر حوّاء أُمّ البشر والقبّة التي عليه، أين قبر حوّاء اليوم؟ ألم يكن وجوده تحفة نادرة؟ يدلّ على موضع موت أوّل امرأة في البشرية؟ أين مسجد حمزة في المدينة؟ ومزاره الذي كان؟ أين...؟ وأين...؟
أسماء القباب الشريفة التي هدموها:
- قبة أهل البيت عليهم السلام.
- قبة سيدنا إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه واله وسلم .
- قبة أزواج النبي صلى الله عليه واله وسلم .
- قبة عمات النبي صلى الله عليه واله وسلم .
- قبة حليمة السعدية مرضعة النبي صلى الله عليه واله وسلم .
- قبة سيدنا إسماعيل ابن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام .
- قبة أبي سعيد الخدري رضوان الله عليه .
- قبة السيدة فاطمة بنت أسد عليها السلام .
- قبة سيدنا عبد الله والد النبي صلى الله عليه واله وسلم .
- قبة سيدنا حمزة عليه السلام خارج المدينة.
- قبة علي العريضي ابن الإمام جعفر بن محمد عليهم السلام خارج المدينة.
- قبة زكي الدين رضوان الله عليه خارج المدينة.
- قبة مالك أبي سعد رضوان الله عليه من شهداء أحد داخل المدينة.
- بيت الأحزان لسيدتنا فاطمة الزهراء عليها السلام .
أسماء المساجد التي هدموها:
(مسجد الكوثر، ومسجد الجن، ومسجد أبي القبيس، ومسجد جبل النور، ومسجد الكبش... إلى غيرها من المآثر والمقامات وسائر الدور والمزارات المحترمة).
كذلك هدموا قباب عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه واله وسلم وأبي طالب عمه عليه السلام ، والسيدة خديجة أم المؤمنين عليها السلام ، وخربوا مولد النبي صلى الله عليه واله وسلم ، ومولد فاطمة الزهراء عليها السلام في جدة، وهدموا قبة حواء وخربوا قبرها، وهدموا جميع ما بمكة ونواحيها، والطائف ونواحيها، وجدة ونواحيها، من القباب والمزارات والأمكنة التي يتبرك بها المسلمون، وتمثل ارتباطهم بتاريخهم، ورموزهم المحترمة.
القرآن وبناء القبور:
لو تتبعنا القرآن الكريم لرأينا أنّ القرآن الكريم يعظّم المؤمنين ويكرّمهم بالبناء على قبورهم، حيث كان هذا الأمر شائعاً بين الأُمم التي سبقت ظهور الإسلام، فيحدّثنا القرآن الكريم عن أهل الكهف حينما اكتشف أمرهم - بعد ثلاثمائة وتسع سنين - بعد انتشار التوحيد وتغلّبه على الكفر.
ومع ذلك نرى انقسام الناس إلى قسمين: قسم يقول: (ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَانًا) تخليداً لذكراهم، وهؤلاء هم الكافرون، بينما نرى المؤمنين ـالتي انتصرت إرادتهم فيما بعد يدعون إلى بناء المسجد على الكهف؛ كي يكون مركزاً لعبادة الله تعالى، بجوار قبور أُولئك الذين رفضوا عبادة غير الله.
فلو كان بناء المسجد على قبور الصالحين أو بجوارها علامة على الشرك، فلماذا صدر هذا الاقتراح من المؤمنين؟! ولماذا ذكر القرآن اقتراحهم دون نقد أو ردّ؟! أليس ذلك دليلاً على الجواز، (قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمرِهِم لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيهِم مسجِداً) (الكهف:21).
فهذا تقرير من القرآن الكريم على صحّة هذا الاقتراح - بناء المسجد - ومن الثابت أنّ تقرير القرآن حجّة شرعية.
إنّ هذا يدل على أنّ سيرة المؤمنين الموحّدين في العالم كلّه كانت جارية على البناء على القبور، وكان يُعتبر عندهم نوعاً من التقدير لصاحب القبر، وتبرّكاً به لما له من منزلة عظيمة عند الله، ولذلك بني المسجد وأصبحت قبور أصحاب الكهف مركزاً للتعظيم والاحترام.
ولا زالت هذه الحالة موجودة حتّى في وقتنا الحاضر، لقبور العظماء والملوك والخالدين، فهل توجد أطهر من ذرّية رسول الله صلى الله عليه واله وسلم الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرّهم تطهيرا؟ قال تعالى: (وَمَنْ أَظلَمُ مِمَّن منَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذكَرَ فِيهَا اسمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُم فِي الدنيَا خِزيٌ وَلَهُم فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ).
البقيع في الشعر:
من الذين نظموا الشعر حول هذه الجريمة النكراء، السيّد صدر الدين الصدر (قدس سره) حيث قال:
لعـمري إنّ فــــــــــــاجعة البقيـع
يُشيبُ لهولهــــــا فؤود الرضيع
وسوف تكون فاتحة الرزايــــــا
إذا لم يُصحَ من هذا الهجوع
أمـــــــــــا من مسـلم لله يرعـى
حقوق نبيّـه الهــــادي الشـفيع
(بحوث في الملل والنحل: 1/ 339).
وقال شاعر آخر:
تباً لأحفاد اليهـود بما جَنـــــــــوا
لم يكسـبوا من ذاك إلاّ العــــارا
هتكوا حريـم محمّد فـي آلــــــــه
يا ويلهـم قد خــــــالفـوا الجبّارا
هَدَموا قبور الصالحين بحقدهم
بُعداً لهم قد أغضبوا المختـــارا
(المذاهب الإسلامية – الوهابية).
وقال شاعر آخر:
لِمن القبور الدارســـــات بطيبة
عفت لهـــــــــــا أهل الشقا آثارا
قُــــل للّذي أفتى بهدم قبورهم
أن سوف تصلى في القيامة نارا
أعَلِمتَ أيّ مراقد هدمتهــــــــــا
هي للمـــــــلائك لا تزال مزارا
(ليالي بيشاور – المجلس الثالث).