إضاءةٌ في نظريَّة المعرفة المُركَّبَة في القرآن الكريم

30-12-2018
مرتضى علي الحلي
إنَّ المعرفة المركبة هي سنخ إدراك وفَهم ثنائي يتقوم بمحورية النظر العقلي والنظر الحسي، ليُشكّل في المحصلة قيمةً ونتاجاً فاعلا للإنسان نفسه، ولتفاعلاته البشرية في مُناخه الكوني والطبيعي. ولو لاحظنا القرآن الكريم بدقة لوجدناه قد اعتمد منهج نظرية المعرفة المركبة في بيانه لأصول الدين الإسلامي العزيز عقيدةً، بل حتى بيان الفروع التشريعية، قال تعالى: ((قُلْ سِيرُوا فِي الأَرضِ فَانظُرُوا كَيفَ بَدَأَ الخَلقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النشأَةَ الآَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ)) (العنكبوت: 20)
والنظر هنا هو النظر العقلي والتفكر الذهني الصحيح، ودائماً يُفرّق القرآن الكريم بين إعمال النظر العقلي وإعمال النظر الحسي والموضوعي في إنشائه للنص الشريف، فعن النظر العقلي يستعمل مادة نظر متعدية بحرف الجر (في) أو أداة الإستفهام (كيف) كما في الآيتين أعلاه، وأما في إعمال النظر الحسي والموضوعي، يستعمل مادة نظر متعدية بحرف الجر (إلى) كما في قوله تعالى: ((وَإِنْ تَدعُوهُم إِلَى الهُدَى لَا يَسمَعُوا وَتَرَاهُم يَنظُرُونَ إِلَيكَ وَهُم لَا يُبصِرُونَ)) فلم يكن القرآن الكريم ككتابٍ سماوي ومعصوم مُتحدداً في حَراكه الوجودي بنسقي العقيدة والشريعة فحسب، بل تمدد حياتيا إلى أبعد من نسق واحد، فشمل الواقع كله وبأنماطه المختلفة زمانا ومكاناً وفكرا وسلوكا وتصورا وتطبيقا.
ولم يتحدد أيضا ببعد المعرفة الذهنية البسيطة والتي محلها الذهن فقط، لتنقطع في إدراكها عما قبلها وما بعدها، ولا ترتبط ببعد الواقع الموضوعي أيّا كان منصرماً أو مُعاصرا أو في طور التكون والتحقق مستقبلا.
بل انفتح القرآن الكريم انفتاحا مُطلقا على الكون والطبيعة وجودا، ليتركب في نظريته المعرفية من النص الحقيقي والواقع الفعلي والشأني، فالنص القرآني حكائي أو تأسيسي هو أيضا نال القسط الأكبر من المعرفة المركبة.
قال تعالى: ((قَد خَلَت مِن قَبلِكُم سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرضِ فَانظُروا كَيفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ)) هذه الآية الشريفة أفصحت عن ضرورة إعمال الفهم الثنائي المركب في تشكيل المعرفة البشرية بمحوريها العقلي والحسي في تحريك للعقل لإعمال إدراكه في وعي وفهم السنن الإلهية الحاكمة على الوجود كله.
وإثارةً منها للإنسان بأن ينظر بعينه حسا إلى التغيرات التي وقعت إثر إهلاك الأمم الماضية أو نزول العذاب بهم وتدميرهم حتى بقى أثرهم شاخصاً للعيان، وليكن محل تأمل وتفكر. ولسنا بصدد البرهنة على صحة نظرية المعرفة المركبة في القرآن الكريم بتحشيد عشرات الآيات لإثبات ذلك، فآية واحدة تكفي قطعاً بقدر ما نقصده من ضرورة إعمال خيار المعرفة المركبة حياتيا على مستوى الدين والشخصية والمجتمع وغيرها، بمعنى يجب أن يكون فهمنا للأشياء فهماً ثنائيا لا إحاديا فلا النظر العقلي منفردا كافٍ ولا النظر الحسي كذلك، بل الاثنان معاً.
وكشاهد على الفهم الثنائي معرفيا في نمط الأحكام الفقهية تشريعيا وقصديا، فعندما يحّرم الله تعالى الخمر حكماً وتطبيقا، فهو سبحانه يحكي لنا ضرورة الفهم الثنائي في نسقه العقلي والحسي، ويبيّن لنا حقيقة ذلك، قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الذِينَ آَمَنُوا إِنمَا الخَمرُ وَالمَيسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزلَامُ رِجسٌ مِن عَمَلِ الشَّيطَانِ فَاجتَنِبُوهُ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ)).
فتحريم الخمر شرعا، إنما جاء وفق ملاك المفسدة الذاتية في تعاطيه؛ كونه يذهب بالعقل ويُفسده فعلا، وهذا ما يدركه النظر العقلي بأدنى تأمل، وما السكر إلاَّ دليل على ذلك، وأما النظر الحسي فإثم التعاطي مع الخمر شراباً أو بيعا أو نقلا أو صناعة أو أي تعاطي آخر بالنتيجة هو أكبر من نفعه، وهذا ما يدركه النظر الموضوعي والحسي بأدنى ملاحظة وتجريب.