عقيدة الامامية في خطاب الإمام الحسن (عليه السلام)

31-07-2024
د. يوسف الرضوي
الخطاب الديني في المسائل العقائدية يحتاج إلى أدلة دامغة وطريقة مميزة لإيصال هذه الأفكار للمتلقي؛ كي لا يغشاه الشك في صحة ما يقال، وقد استخدم الإمام الحسن «عليه السلام» في خطبته هذه، عباراته بطريقة مميزة وجذابة مفعمة بالعاطفة ومدعمة بالأدلة والبراهين من كتاب الله تعالى، وأحاديث رسول الله «صلى الله عليه وآله»، ومن سيرته وأخيه الإمام الحسين «عليه السلام».
ولكي يضع الأمور في موازينها الصحيحة وحتى يدفع بالمستمع لمراجعة تلك الأدلة والأحاديث والحوادث التي شهدها البعض وسمعها بشكل مباشر، وهم ما زالوا قريبين من عهد رسول الله «صلى الله عليه وآله»، ومنهم من حفظ تلك الآيات والأحاديث وتناقلوها من جيل إلى آخر حتى وصلت إلى عصرنا هذا.
الهدف من الاستدلال بها هو أن يضع الجميع أمام مسؤوليتهم بعد اثبات حقه ومكانته من دين الله، وصلته برسول الله «صلى الله عليه وآله» مستخدماً قدراته الخطابية – وهو ابن خير من نطق بالضد – ومدعماً كلامه بالحجج الدامغة التي لا يستطيع أحد ردّها أو الاعتراض عليها.
فبكلماته هذه أراد أن يعصم الناس عن الوقوع في الزلل والخطأ بإرجاعهم إلى جادة الحق والصواب، مستخدماً الطريقة السردية والتي سرد فيها هذه الأدلة والبراهين ليؤكد وجوب اتباعهم فهم «أولى الناس بالناس» كما عبر عن ذلك بنفسه «عليه السلام».
وهذه البلاغة المعجزة لا يستطيع أحد من المخلوقات مضاهاتهم بها، فقد جاء على لسان أمير الكلام علي بن أبي طالب «عليه السلام»: «ألَا وإِنَّ اللِّسَانَ بَضْعَةٌ مِنَ الإِنْسَانِ، فَلَا يُسْعِدُه الْقَوْلُ إِذَا امْتَنَعَ، ولَا يُمْهِلُه النُّطْقُ إِذَا اتَّسَعَ، وإِنَّا لأُمَرَاءُ الْكَلَامِ وفِينَا تَنَشَّبَتْ عُرُوقُه، وعَلَيْنَا تَهَدَّلَتْ غُصُونُه»(1).
هذا يدل على أن الأئمة «عليهم السلام» مؤيدون من الله بالدليل والحجة، وأشربوا العلم وتلقفوه كابراً عن كابر، وتمرسوه في العديد من المناسبات، وهم أهل بيت قد زُقّوا العلم زقا، هذا باعتراف أعدائهم وشآنئيهم قبل محبيهم وشيعتهم. وليس لأحد من وسيلة يستطيع الرد عليهم، وهذا ما سنأتي على ذكره فيما سيأتي خلال هذه الحلقات والبحث في أجزاء هذه الخطبة العصماء المباركة، والتي أتحفنا بها الإمام الحسن «عليه السلام» لا لتكون حجة على أهل زمانه فقط بل هي حجة على كل الآتين فيما بعد لما تضمنتها من دلائل وبراهين.
سنعرض أهم النقاط التي سردها الإمامُ الحسن «عليه السلام» حيث أن الخطبة الشريفة تعج بالأدلة الكثيرة ساقها الإمام «عليه السلام»، وسنبحث في هذه الأدلة على نحو الاجمال حيناً، ونفصل غيرها حيناً آخر، كما يقتضيه واقع الحال؛ لأن بعضها لا يمكن اختصاره والمرور عليه مرور الكرام، بل لا بد من تمحيصها لأهميتها وشموليتها، وهذا نصّ الخطبة التي تعد قمة في الدلالة والاحتجاج قبل أن نُقدم على تفصيلها على محورين:
الأول: فضائل أهل بيت النبوة (عليهم السلام).
الثاني: خصائص أمير المؤمنين في كلام الإمام الحسن المجتبى (عليهما السلام).
خطبة عصماء:
قال «عليه السلام» بعد الحمد والثناء، والصلاة على رسوله «صلى الله عليه وآله»: «نحن أهل بيت أكرمنا الله واختارنا، واصطفانا، وأذهب عنا الرجس، وطهرنا تطهيرا، ولم يفترق الناس فرقتين إلا جعلنا الله في خيرهما من آدم إلى جدي محمد «صلى الله عليه وآله» فلما بعثه للنبوة، واختاره للرسالة، وأنزل عليه كتابه، فكان أبي أول من آمن، وصدق الله ورسوله، وقد قال الله في كتابه المنزل على نبيه المرسل: ﴿أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ﴾(هود/17).
وقد قال له جدي «صلى الله عليه وآله» حين أمره أن يسير إلى مكة في موسم الحج بسورة براءة: سر بها يا علي، فإني أمرت أن لا يسير بها إلا أنا أو رجل مني وأنت هو يا علي"، فعلي من جدي، وجدي منه.
وقال له جدي «صلى الله عليه وآله» حين قضى بينه وبين أخيه جعفر، ومولاه زيد ابن حارثة في ابنة عمه حمزة: أما أنت يا علي فمني، وأنا منك، وأنت ولي كل مؤمن ومؤمنة بعدي.
فلم يزل أبي وقى جدي بنفسه، وفي كل موطن يقدمه جدي لكل شدة، يرسله ثقة منه وطمأنينة إليه، وقال الله جل شأنه: ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ﴾(الواقعة/11-12).
فكأن أبي سابق السابقين وأقرب المقربين إلى الله وإلى رسوله، وذلك
أنه لم يسبقه إلى الإيمان أحد غير خديجة «سلام الله عليها»، فكما أن الله (عز وجل) فضل السابقين على المتأخرين، فضل سابق السابقين، وقد قال الله (عز وجل): ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾(التوبة/19).
نزلت هذه الآية في أبي، وكان حمزة وجعفر قتلا شهيدين في قتلاء كثيرة من الصحابة، فجعل الله حمزة سيد الشهداء من بينهم، وجعل لجعفر جناحين يطير بهما في الجنة مع الملائكة كيف يشاء من بينهم، وذلك لقرابتهما من جدي «صلى الله عليه وآله»، وصلى جدي على عمه حمزة سبعين صلاة من بين الشهداء يوم أحد، وكذلك جعل الله تعالى لنساء نبيه المحسنة منهن أجرين، وللمسيئة منهن وزرين ضعفين لمكانهن من جدي.
وجعل الله الصلاة في مسجد نبيه بألف صلاة من بين سائر المساجد إلا المسجد الحرام لمكان رسول الله «صلى الله عليه وآله»، فلما نزل: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾(الأحزاب/56).
قالوا يا رسول الله كيف نصلي عليك؟
فقال: قولوا: «اللهم صل على محمد وآل محمد».
فحق على كل مسلم أن يصلي علينا مع الصلاة على جدي فريضة واجبة، وأحل الله خمس الغنيمة لرسوله وأوجبها في كتابه، وأوجب لنا من ذلك ما أوجب له، وحرم عليه الصدقة وحرمها علينا، نزهنا مما نزهه وطيب لنا ما طيب له، كرامة أكرمنا الله بها، وفضيلة فضلنا على سائر عباده.
وقال تعالى لجدي حين جحده كفرة أهل الكتاب وحاجوه: ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾(ال عمران/61).
فأخرج جدي معه من الأنفس أبي، ومن البنين أنا وأخي الحسين، ومن النساء أمي فاطمة، فنحن أهله ولحمه ودمه ونفسه، ونحن منه وهو منا، وقد قال الله تبارك وتعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾(الأحزاب/33).
فلما نزلت هذه جمعنا جدي: وأخي وأمي وأبي ونفسه في كساء خيبري في حجرة أم سلمة (رضي الله عنها) فقال: اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.
فقالت أم سلمة أنا أدخل معهم يا رسول الله؟
فقال: قفي مكانك، يرحمك الله أنت على خير، وأنها خاصة لي ولهم.
ولما نزلت: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا﴾(طه/132).
يأتينا جدي كل يوم عند طلوع الفجر يقول: الصلاة يا أهل البيت يرحمكم الله، و﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾(الأحزاب/33).
وأمر بسد الأبواب في مسجده غير بابنا فكلموه في ذلك فقال: إني لم أسد أبوابكم ولم أفتح باب علي من تلقاء نفسي، ولكن أتبع ما أوحي إلي، إن الله أمرني بسد أبوابكم وفتح باب علي، وقد سمعت هذه الأمة جدي يقول: «ما ولت أمة أمرها رجلاً وفيهم من هو أعلم منه إلا لم يزل يذهب أمرهم سفالاً حتى يرجعوا إلى ما تركوه».
وسمعوه يقول لأبي: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي».
وقد رأوه وسمعوه حين أخذ بيد أبي (بغدير) خم، وقال لهم: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، ثم أمرهم أن يبلغ الشاهد منهم الغائب.
ثم قال «عليه السلام»: أيها الناس إنكم لو التمستم ما بين جابلقا وجابرسا رجلاً جده نبي، وأبوه وصيه لم تجدوا غيري وغير أخي، فاتقوا الله ولا تضلوا.
أيها الناس لو أذكر الذي أعطانا الله تبارك وتعالى وخصنا به من الفضائل في كتابه، وعلى لسانه نبيه لم أحصه، وأنا ابن البشير النذير، وأنا ابن السراج المنير الذي جعله رحمة للعالمين، وأقسم بالله لو تمسكت الأمة بالثقلين لأعطتهم السماء قطرها، والأرض بركتها، ولأكلوا نعمتها خضراء من فوقهم، ومن تحت أرجلهم من غير اختلاف بينهم إلى يوم القيامة، قال الله (عز وجل): ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ﴾(المائدة/66).
وقال الله (عز وجل): ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾(هود/28).
نحن أولى الناس بالناس في كتاب الله وعلى لسان نبيه «صلى الله عليه وآله» أيها الناس اسمعوا وعوا، واتقوا الله وارجعوا إليه، هيهات منكم الرجعة إلى الحق، وقد صارعكم النكوص وخامركم الطغيان والجحود، ﴿أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ﴾(هود/28).
والسلام على من اتبع الهدى»(2).
________
1- نهج البلاغة خطب الإمام علي «عليه السلام»: (تحقيق صالح)، ص354، وشرح نهج البلاغة: لابن ميثم، ج4، ص112.
2- الأمالي الطوسي: ص567، وحلية الأبرار: للشيخ البحراني، ج2، ص78.