الحديث عن الحرية والأمن والسلام في بلاد أدمنت الاستبداد، يعد نوعاً من أنواع العبث، أو ربما الترف الفكري؛ لأن ذاكرة الواقع العراقي مملوءة بالسجون، و(نقرة السلمان) هو أحد أقدم السجون التي أسست على يد القوات الإنجليزية في العشرينيات في زمن الملك فيصل الأول.
استحدثت معتقلات عدة في بادية السماوة، منها معتقل كبير يقع في جنوب شرق قصبة قضاء الســلمان، وعلى بعد 10 كلم منها، وفوق هضبة عالية تشرف على تلك القصبة، إلا أنها معزولة تماماً، ولم تتصل بأي طريق اعتيادي، ومحاطة بهضاب مرتفعة، وهي قلعة من ثلاثة طوابق، توطنت فيها أمراض خطيرة: كالجذام والجرب، وأمراض أخرى أصابت المعتقلين: كالكوليرا، والتدرّن الرئوي، والزحار، وبجوارها مقبرة يُدفن فيها من يموت من المعتقلين بهذه الأمراض.
كما أقام النظام السابق معتقلات أخرى في تلك الفيافي القفراء مثل: (أبو الجد)، و(الليَّة)، و(الشيحية)، يمكن وصف معتقل (الليه) بأنه عبارة عن أربعة صفوف ممتدة طولاً من أبنية صغيرة، لا يمكن أن يُطلق عليها مساكن، وتلك الأبنية متلاصقة بعضها ببعض يتكون كل منها بمساحة 5×5، وبارتفاع لا يتعدى 2م، ولا يوجد حمام أو دورة صحية، وقد بُنيت تلك الأماكن من حجر بري صخري، وزُجّت فيها عوائل من النساء والأطفال وكبار السن، وأعدّت خصيصاً للمعتقلين.
وهناك معتقل ثالث اسمه (الشيحيات) بني بنفس الطريقة التي بُني بهما المعتقلان الأوليان.
إن جميع هذه المعتقلات شُيِّدت بعد انقلاب 17/7/ 1969، ومعتقل القلعة الذي يشرف على قصبة قضاء السلمان الذي أشرنا إليه هو من أضخم تلك المعتقلات من حيث السعة وانقطاع السبل الاعتيادية المؤدية إليه، حيث بُنيَ على هضبةٍ عالية ووسط أراضٍ متكسرة ووعرة أسكنَ فيه من مختلف المدن العراقية ومن عشيرة البروارية، واعتقل فيه أيضاً أبناء الأسر العراقية المهجرة إلى إيران، ومن مختلف المدن سواءً من بغداد أو من المحافظات الأخرى وأغلبهم يحمل هوية النفوس العراقية.
ثم أسكن في تلك القلعة على فترتين أسر من الأكراد من منطقة كلار، والبروارية، وأهل الدجيل، ثم أشغلت المعتقلات الأخرى بعد بدء الحرب. لقد كانت تلك المعتقلات محطات للتصفية الجسدية.
وفي العهود السابقة، كان المعتقل الوحيد في البادية الجنوبية هو (نگرة السلمان)؛ لإيواء الرجال السياسيين فقط، ويقع داخل مدينة السلمان الصغيرة، ويتمتع المعتقلون آنذاك بالتجوال في المدينة نهاراً، أما معتقل (الشيحية) فقد أعدَّ لأهالي الدجيل الذين لا ذنب لهم سوى أن محاولة اغتيال الطاغية جرت على أرضهم.
ويقع المعتقل بين مركز قضاء السلمان، ومركز ناحية بصية التي تبعد عن مركز القضاء 200 كيلومتر، وبعد السير باتجاه بصية بحوالي 100 كيلومتر، وعلى الجانب الأيمن من ذلك الطريق باتجاه الحدود السعودية، وقد وُضعت فيه أسر ونساء وأطفال ولفترة طويلة، ويُؤتى بهؤلاء المعتقلين من مختلف المدن العراقية سواء العربية منها أو الكردية.
إن من يسكن تلك الأقبية يضعون الحجر ليلاً على أبوابها؛ خشية أن تداهمهم الحيوانات المفترسة: كالذئاب والضباع التي تجوب تلك الفيافي لاسيما في أوقات الليل، وأحياناً في وضح النهار، وحتى في موسم الأمطار لا يمكن أن يتأمل شخصٌ أن يبقى على قيد الحياة، عندما يترك ذلك المكان لمسافة معينة.
مأساة حقيقية، يروي أحد أعضاء فرق حقوق الإنسان التي كانت تزور مع ذوي الضحايا بعد سقوط النظام تلك الصحاري بحثاً في المقابر الجماعية التي دُفن فيها أحياء من معتقلي تلك السجون، فقد كان منظر هذه الجموع من الناس وما تعرضوا له من قسوة المناخ، يشكل مأساة حقيقية، ووجدوا مقابر جماعية في منطقة تدعى (السلحوبية) بالرغم من أن المعتقلات في الوقت الحالي خالية من السجناء، الى أنها مليئة بالذكريات الأليمة التي ملأت ذاكرة الشعب العراقي.