مـنـذ ألــف عـــام...
21-10-2020
انوار الخزرجي
منذ ألف عام، وهذا النهر يلطم أمواجه عبثاً، يجري علّه يصل الى عطشنا، لكنه هو أيضاً بلا أذرع، ينساب بصمت؛ خشية أن يوقظ من هم رقود على ضفافه، يد ثكلى تهز المهد منذ ألف سنة، تقرأ له الصبا تهويدة كلما مرت به؛ كي لا يفزعه الصهيل والصليل، تحوم حوله علها تطرد رائحة الدخان العالقة فيه منذ قرون.
قالت إحدى الخيمات: حاولت كثيراً أن اقتلع نفسي، واركض نحو زينب، كنت أفكر أن ألوذ بها أنا أيضاً، عندما سرت فيّ النار، لكني رأيتها الى عباءتها أسرع، أردت أن ألقي بنفسي عليها عوضا عن العباءة، فيما تحولتُ الى رماد، وتصاعدتُ مثل سحابة سوداء.
أردت أن أحول بين أذن الصغيرة وأيديهم، إلا أني فررت مثلها وكأن الأقراط ذعرتْ أكثر مني، وهي تُنزع من أذنيها، حتى عندما صرت رماداً كنت أشعر بثقل الحوافر، وهي تدوس عليّ ثم تنثرني من حدوتها.
أيرى أبي ما يحدث! قد رمدت عيناي.
الأشواك التي انتزعتها من حول الخيام؛ كي لا تؤذينا، هي الآن مغروسة في قدمي مثل الاصابع.
الخيول ضخمة وكبيرة يا أبي، ويداي صغيرتان لا أقدر أن أكفها عني، تحلقت حولي بالسوق والأعناق، وراحت تصهل عالياً، عمتي تحاول أن تجمعنا كعقد انفرط في الظلمة، وكانت هي واسطة العقد.
عندما عاد جوادك حمحمَ باكياً، أراد أن يخبرني بشيء، لكنه لم يقوَ سوى أن يهتف بالظليمة.
يحاول عمي النهوض، عندما سمع صراخاً يستنهضه، لكنه شمّر كفيه فيمينه وشماله لا تلتقيان، ربما كان يقصد ان يمدهما في هذه الصحراء ما امتدت؛ كي يبقينا بين ذراعيه.
خُيّل لي التاريخ على هيئة رجل طاعن، حاول أن يجتاز النهر، وكان يغرق في كل مرة، لايزال راكعاً هناك الى الأبد.
الرمح طويل والليل اطول، عندما تكون غائبا يا أبي ورأسك المتعب من هذا السفر، الليل يبدو مثل خيمة كبيرة فقدت عمادها وهوت علينا.
أتدري يا أبي، أشاركك الكثير من الألم، تعرف جيداً ما معنى أن يفقد المرء أمه في الصغر؟ إلا أنك أيضاً رحلت عني، كما أني أشارك أمنا الزهراء الحسرة والغربة ذاتها، فقدتُ والديّ، أُوذيت، وظُلمت، ودُفنت ليلاً، فأنا الأكثر يتماً هنا.