نـظـرة مـن واقـع الطــف
21-10-2020
ايمان صاحب
كانت الصغيرة طوالَ الوقت تسأل: أين أبي؟ رغم ما بها مِن ألمِ السياط ولهيب العطش، فألم الفراق كانَ أشدَها وكل مرة يكون الجواب: إنهُ على سفرٍ ٍفتعود لدمعِها الرقراق، وهي تنتظرُ قدوم الأب الحنون، لِتفرش لهُ سجادة الصلاة كماَ كانت، وتغفو بحجرِه الدافئ، وقبلَ ذلك لا تنسى أن تخبره بما أصابها مِن ضربٍ وسبي، وتريه قرطها المسلوب عند حرق الخيام؛ لأنها لمّ تفر بالبيداء كما فرت الأيتام احتضنت العقيلة زينب وراحت ترتجفُ مع عباءتها، لما سوط الشمر أخذ يضربُ عَمتها، وما إن ابتعد عنهما، راحت تهدّئ قلبها المرتعد مِن الخوفِ: بُنية، هل انتِ بخير؟ أجابتها بصوتٍ ضعيف: نعم عمتي، أنا بخير، ولكن إلى أين نذهبُ؟ وما هذه الجِمَال؟ ضَمتها إلى صَدرها زينب ع بالحال؛ لكي لا ترى لحزنها أثراً، وحَبست دمعها عن رقية، هل تقول لها: سَنذهبُ بعيداً ونكون أنا وأنتِ بنفسِ قيد حبل الأسر يلفنا؟!
أم تقول: سَنرحل مع أناس بلا رحمة، حملوا رأس حبيبنا فوقَ القنا، وتركوا بالعراء جسمهُ؟
وقبلَ أن تسمع الجواب: صاح بها أحدهم: هيا اركبي أنتِ وأخواتك، وكأني بها تلفتت إلى صوبِ مصرع أخيها القتيل لتقول لهُ:
من يُركبنَا، فعلي مازال عليلاً ونحنُ بلا كفيل؟
ثمّ ركبَ الجميع، وبجهدها قَد ركبت وعيناها على رقية، سارت القافلة وسط تلك الصَحراء القاحلة بلا غِطاء، يظلهم مِن حَرارة الشمس، ولا وقاء يقيهم مِن السقوط، ولم تتَريث بالمسير ريثما يستريحُ الأيتام، فمازالوا مُنهكين مِن فِرارهم مِن الخيامِ، لمّا سَعرت بها النيران، وأي راحة بعد هذا العناء تنتظرُ سبايا الرسولJ ضحكاتُ الشامتينَ، وقرع الطبول، تحيطُ بهم نظراتُ الحاقدين مِن كلِ مكان إلى أن أوصَلتهم إلى الخربة، حيثُ لا سقفٌ يظلهم مِن حرٍ، ولا تَسترهم جدران، سوى ظلّ زينب ع بعباءتها ومن حولها نساء ثاكلات ينظرن لزينب ع، وتارة إلى السماء باكيات شاكيات بعدما نامت رقية فوقَ كثيب الرمال، ولمّ تعد تسأل ذاك السؤال: أينَ أبي؟ ومرت لحظات ولحظات على نومِ اليتيمة ولا أحد يعلمُ على إثره تكون نهايتها الأليمة، وراح جفناها المثقلان بالأمنيات يتعلقان برؤيا الحبيب المسافر، ويحاولان التمسك به؛ كي لا يغادر، لكنّهما لم يستطيعا وغابَ مرة أخرى، وبغيابهِ استيقظَ الجفنان على واقعٍ فجيع فيه طشت يحملُ رأساً قطيعاً خَضبتهُ الجراح بالدماءِ كجفني رقية مِن فرطِ البكاء، دمعة ودم طبعت على خدهِ، لما هوت فوقَ رأس والدها، وبينَ حنين وعتاب فارقت روحها الحياة لتسافر معهُ إلى الجنّة.