الجذور التاريخية لأصل الثقافة في المجتمع العراقي

10-09-2020
أ.م.د وداد جابر غازي
الثقافة:
هي مشتقة من (التثقيف) ومعناها (تقويم المعوج) وتعني الحذق وسرعة التعليم ورجل ثقف معناها (سريع التعلم)، وثقف الانسان أدبه وهذبه وعلمه، وإن لفظ (مثقف) والذي يتم استخدامه في لغتنا العربية المعاصرة هو لفظ مولد لا يمكن العثور عليه في الادبيات العربية القديمة، وهو اسم مفعول من الفعل ثقف، أي بمعنى (حدق) فلقد جاء في كتاب لسان العرب: "ثقف الشيء ثقفا وثقافة حذقه"، ورجل مثَقَّف بفتح الثاء والقاف وثَقِف (بفتح الثاء وكسر القاف). وثَقُف بفتح الثاء وضم القاف (حاذق منهم).
وان المثقف الحقيقي لا يعني فقط من حملة الشهادات العليا، انما المثقف من امتلك مهارات متعددة في القول والفعل، وتحمّل المسؤولية والمعلومات والارادة والتعبير عن ضمير المجتمع، وأن لا يكون أي ذيل لأي سلطة أو نظام أو دكتاتور، أي انه يقع تحت سطوة أي ايديولوجية ومذهبية وطائفية وقبلية، إذ ان الثقافة هي الحذاقة وقوة الشخصية واستقلالية الرأي وصحة المعلومة وسلامة التفكير وحداثة الفكر وتجديد المعاني وخصب العطاء وروعة الابداع.
إن تاريخ الاجتماع الانساني يحفظ دوراً خاصاً متميزاً للمثقف والمثقفين في مجتمعاتهم، قاموا به ويقومون في عملية بناء الحضارات الانسانية وتشييدها وازدهارها، وفي التنبيه لانحطاطها وتدهورها وأفولها. وقد خلص قسطنطين زريق في دراسته الجامعية عن (الحضارة) الى أن: «الأشخاص مظهر من المظاهر التي تتجلى بها الحضارة تكاد تعبر عن المظاهر الاخرى، وهي الادوات والمنتجات والقدرة التقنية والعادات والفنون الشعبية والقوانين وانواع التنظيم واللغة والكتابة والآداب والفنون والعلم والفلسفة»، وشرح ذلك بقوله: «فلكل حضارة رجالها ونساؤها البارزين، الذين حفظ التاريخ ذكرهم، وسجلت سيرهم، واولئك الذين غمرتهم الاحداث او ضاعوا في قناة النسيان وسير هؤلاء الاشخاص واوضح منها، وما استتر دليل على الحضارة، فإن ما تنطوي عليه هذه السير من دوافع الاختيار ووجوه السلوك، ومن الآراء والمعتقدات، ومن الاتجاهات والاختبارات ومن الفضائل والنقائض آن هذا كله مرآة صادقة للأوضاع الحضارية التي عاش هؤلاء الاشخاص في كنفها. ومن هنا كانت اهمية تدوين السير كفن من فنون التاريخ».
عندما نتحدث عن المثقفين فنحن لا نقصد الافراد من حيث ابداعهم او انتاجهم لمختلف القيم الفكرية والفنية والادبية، كما اننا لا نقصد المثقفين من حيث هم فئة مهنية أو اصحاب حرفة متميزة عن مثيلاتها من الفئات الاجتماعية في أسلوب عملها ورزقها، إن المقصود في السياق الذي نتحدث عنه هو جزء من النخبة الاجتماعية التي تهتم في ما وراء حرفتها وبالاعتماد عليها معاً، بقضايا المصير العام وهم يشغلون بالتالي، بالإضافة الى وظيفتهم الخاصة، وبصرف النظر عن وظيفتهم المهنية، وظيفة اجتماعية معينة وتختلف هذه الوظيفة اختلافاً جذرياً عن تلك التي تستجيب لإنتاج المعرفة او التدقيق فيها او تحسين شروطها ودرجة اتساقها، فهي ليست شيئاً آخر سوى وظيفة انتاج المجتمع نفسه من حيث هو آلية تختص بجمع وتوحيد الأجزاء والعناصر التي يتألف منها، وبث الروح الجمعية فيها وتحويلها بالتالي الى كيان حي قادر على الحركة والتنظيم والتنسيق والتحسين والإصلاح.
ان بناء هذه الآلية الاجتماعية بما فيها من عوامل الألفة والتنظيم والتعاون، أي تكوين الحقيقة الاجتماعية كحقيقة كلية، هي وظيفة النخبة الاجتماعية. وهو ما تهتم به الانظمة السياسية بشكل رئيسي. والمثقفون هم احد المكونات الاساسية لهذه النخبة في كل النظم الاجتماعية، وفي النظام الحديث بشكل خاص.
ان المثقف العربي يسهم في تعزيز القدرات العربية، ويؤدي دوراً في تكوين الرؤية الصائبة، واكتساب المعرفة الصحيحة ونشرها، وفي التوعية لأن الوعي الرصين هو أساس كل تقدم. وفي هذا الجانب، يقوم المثقف بدور اساسي ومهم من الناحية النظرية وبالرجوع الى التاريخ ودراسة الحركات التغييرية او النهضات التي قامت في الغرب، او في المجتمعات المتقدمة، فقد سبقتها وصاحبها توعية فكرية من قبل المفكرين، بل ان الحركات، التي تقوم بها طبقات غير طبقات المثقفين لابد من ان تشير وتسترشد بدعوات المثقفين ومواقفهم، وعندما ينتمي المثقفون الى هذه الحركات فإن وظيفتهم تصب في اشاعة المزيد من التوعية وتسديد الرؤية، والمزيد من اكتساب المعرفة وتطبيقها؛ لأن المعرفة الصحيحة هي اساس النهضة، وليس الشعارات، وهنا يكون دور المثقفين في رسم الغايات، واختيار الوسائل وتصنيف الأولويات، وفي النضال الدائم داخلياً في سبيل بلوغ هذه الغايات.
يعد الوالي العثماني مدحت باشا، رائد التحديث في العراق؛ لأن الاصلاحات التي اقامها في العراق، جعلها طفرة نوعية في حياة العراق في القرن التاسع عشر، ففي رأي شاعرنا المرحوم محمد مهدي البصير به: "لولا اصلاحات الوالي مدحت باشا لكان من الصعب ان نرى في البلاد شيئاً يُذكر".
ورأى شاعرنا الآخر محمد رضا الشبيبي: "ان الوالي مدحت باشا، أدخل بعض مفردات الحياة المدنية الى العراق، وترك فيها اثراً محسوساً من آثار التجدد حسب تعبيره"، اما المثقف العراقي فهمي المدرس فقد اطنب في تقييم اصلاحاته التي رأى فيها: "انجازات كبيرة في مدة قصيرة"، ومن هذه الإصلاحات، هو انجازه خط الترام بين بغداد والكاظمية، وهو الاول من نوعه في العراق، لفت انظار مثقفي المرحلة، فكتب عن هذا الانجاز الجديد وعدّه البعض من ابداع الأوروبيين الذي كانوا في نظره مصدر الابداع ومنبع الافكار الجديدة.
اما المدارس الحديثة التي ادخلها الولي مدحت باشا من اكثر العوامل المؤثرة في التطور الفكري للفئة المثقفة العراقية، فقد درس وتخرج منها عدد من المثقفين المجددين، فعلى سبيل المثال درس معروف الرصافي في المدرسة الرشيدية في بغداد، التي وصفها بأنها كانت بالنسبة له(حياة جديدة)، وكان لهذه المدارس صدى مؤثر في اوساط المثقفين، فمنذ بداية انشائها حظيت بتقديرهم واهتمامهم، ولاسيما انها كانت تدرس عدة لغات، واحتلت جريدة(الزوراء) التي أسست في بغداد وصدرت في عام 1869في عهد الوالي مدحت باشا، موقعاً مهماً في التأثير على التطور الفكري لدى الفئة المثقفة العراقية، فبتأثير الوالي مدحت باشا، الذي كان من المتأثرين بأفكار الثورة الفرنسية 1897، غدت جريدة الزوراء أحياناً افكار المثقفين بمبادئ تلك الثورة في عهد ولايته.
فقد وردت اشارة صريحة فيها الى الثورة الفرنسية، واعلان حقوق الانسان في مرحلة مبكرة من صدورها، لذلك اصبحت باريس في نظر المثقفين العراقيين مركزا للثقافة، وانموذج الترقي والعمران في الكرة الارضية وحديقة العالم ومسرح انظار كافة الأمم وأصبحت فرنسا في نظرهم الدولة الاوربية الاولى في مضمار نشر المدنية.
الى جانب كل هذا الاصلاحات التي قام بها الوالي مدحت باشا، فإن العراق، عرف عنه بأنه موئل الكتاب وسوقه، إذ أن العراق هو مهد الحضارات القديمة للتطور الثقافي عن طريق الخط المسماري؛ لأنه اول خط عرفه الانسان وتم تدرج لغات الحضارات القديمة منها المصرية اهتدت الى الخط الهيروغليفي.
وكما ان العراق اول من وضع اسس قانون الانسان في الكون مثل قانون أشنونا ثم مسلة حمورابي، ومن هنا عرف عن العراقي بأنه شغوف بالقراءة حتى لم تكفه مطابعة وانتاجها، بل اتجه دائماً لقراءة النتاج الثقافي الانساني، ما جعل المكتبة العراقية غنية دائما ممتلئة الرفوف بأنواع الكتب الصادرة في محيطه الاقليمي القريب والدولي البعيد.