السيدة الحوراء ع قائدة ملحمة البطولة
06-09-2020
هديل الموسوي
لم تكن القيادة بمفهومها العام مقتصرةً على الرجال, ولم يكن نجاحها متوقفاً على جنس واحد أيضاً، إلا إنها اقتصرت بمفهومها السياسي ووفقاً للنظريات الشخصية لبعض الأفراد على دعم الرجل كقائد في كلّ الميادين، وهي تضمن نجاحه، وتشكك في مسألة قيادة المرأة لأي مشروع، وربما تعتقد أنه انتقاد أو انتقاص لكرامة الرجل، ولاسيما في مجتمعاتنا؛ ذلك لأن الله أودع قوة العاطفة لديها قياساً بالرجل الذي أعطاه الله قوة العقل، وبذلك زعموا أن المرأة لا يمكنها أن تصدر حكماً عادلاً متزناً.
إلا أن أهل البيت (عليهم سلام) بقيادة نبي الإسلام والسيدة خديجة ع كانوا قد رسموا مفهوم القيادة الفعلية لجميع جوانب الحياة، وحيث إن ابنتهما الزهراء ع كانت وما تزال رائدة العفة والبطولة الإيمانية التي شاركت بها زوجها سيد البلغاء ع، وتعلمت من والديها المفاهيم الإسلامية، وعرفت كيف تقود المجتمع بعد وفاة النبي ص، إذ لم تقتصر قيادتها على الأمور السياسية، بل تعدت الى الأمور الدينية والروحية وكلّ الجوانب.
ولم تهمل البتول ع أو تهمش دور الإمام علي ع، بل كانت قوة إيمانية تزداد بدعمه، وتوليها نصف المهمة؛ ليكملها الإمام ع، وكان بذلك فرحاً وداعماً لها, وبذلك كانت السيدة الحوراء زينب ع هي كأمّها وجدتها، ولأن أمّها كانت قدوتها في كل شيء، وهي التي ربّتها على أسس العقيدة وقوة وصلابة الإيمان, فكانت السيدة زينب ع قائدة منذ الصغر، وبالأخص عندما استشهدت أمها ع، فتحملت عِبْءَ المسؤولية، وتقاسمتها مع والدها, وبرغم قصر المدة الزمنية التي عاشتها مع والدتها، إلا أن السيدة الزهراء ع أعدتها ليوم كملحمة الطف الخالدة, والسيدة زينب ع بنت في نفسها لبنات القيادة الإيمانية؛ لتحمل عِبْءَ المهمة الملقاة على عاتقها؛ لتكون سيدة علوية قائدة لملحمة بطولية قادمة.
وحتى عندما أتى عبد الله بن جعفر الطيار ع لخطبتها، شرطت عليه أن يسمح لها بالخروج مع أخيها الحسين ع حينما يحين الموعد لتنفيذ مهمتها في دعم أخيها في محنته.
لقد كانت قائدة ونعم القائدة بجنب إخوتها الحسين والعباس ع, وحينما قُتل أبو الفضل العباس ع أحسّت بمرارة الفقدان، وإنّ ظهرها انقصم كما انقصم ظهر أخيها الحسين ع باستشهاد (حامي الخدر).
والمصيبة الأعظم حينما بقي سيد الشهداء وحيداً، وهي تلمّ شمل النساء والأرامل والأيتام, وبعد لحظات استشهد الإمام الحسين ع، فنادت أم كلثوم: وا محمداه، وا أبتاه، وا علياه، وا جعفراه، وا حمزتاه, هذا حسين بالعراء صريعٌ بكربلا..., فهرعت السيده زينب ع نحو الميدان، وهي تشق طريقها الى مصرعه، وهي تنادي: ليت السماء أطبقت على الأرض، وليت الجبال تدكدكت على السهل, وانتهت نحو الحسين ع، وقد دنا منه عمر بن سعد في جماعة من أصحابه والحسين ع يجود بنفسه، فصاحت: أي عمر، أ يقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه؟, فصرف عنها ودموعه تسيل على لحيته, فقالت: ويحكم أما فيكم مسلم؟ فلم يجِبْها أحد.
هكذا كانت مواقفها البطولية حاسمة في كل الظروف, راضية, قانعة بما قدّر الله لهم, وحينما حرق جيش ابن سعد خيام الحسين ع، وبقين بنات الرسالة في العراء حتى زوال يوم الحادي عشر من المحرم، أخذت السيدة زينب ع بلمّ شمل اليتامى والأرامل، وجمعتهم حولها ثم توجهوا للكوفة, وهي لم تكن تريد أن تبدو عليها علامات الانكسار والحزن الشديد، لئلا تضعف العزيمة لدى بنات الرسالة, فكان قلبها ينزف دماً من الحزن، ولم تظهره؛ لصلابة الإيمان في موقفها القيادي, وحينما رأت السجاد ع وما حلّ به وقد اشتد به المرض، ويكاد قلبه يتفطر، أخذت تسلّيه وتصبّره فقالت: «ما لي أراك تجود بنفسك يا بقية جدي وأبي وأخوتي؟», وحينما قرب موكب السبايا من الكوفة، كانت السيدة تزداد قوة؛ لأن المواقف التالية ستكون أصعب, وخطبت فيهم: «... أفعجبتم أن مطرت السماء دماً؟ ولعذاب الآخرة أخزى وأنتم لا تنصرون, فلا يستخفنكم المهل, فإنه لا يحفزه البدار, ولايخاف فوت الثأر, وإن ربكم لبالمرصاد».
وعندما خطبت هذه الخطبة، كان الناس حيارى يبكون ويضعون أيديهم على أفواههم أسفاً وندماً على ما حلّ بأولاد الأنبياء, ولا يفوتنا الحديث عن خطبة السيدة ع عندما حاورها ابن زياد, حين أقبل عليها قائلاً: «الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب أحدوثتكم», فقالت ع: «الحمد لله الذي أكرمنا بنبيه J وطهّرنا من الرجس تطهيرا... إنما يُفتضح الفاسق ويُكذب الفاجر وهو غيرنا».
فقال ابن زياد: «كيف رأيتِ صُنع الله بأخيك وأهل بيتك؟».
فقالت: «ما رأيتُ إلا جميلا».
لقد كانت بطلة في كافة الميادين، وكلامها يفوح بعبق الولاية العلوية المحمدية، فرسمت بمواقفها أسس القيادة الفعلية للمرأة المسلمة المحافظة على دينها، لتبني أسطورة قيادية تزيد التاريخ ألقاً بأنوار أهل البيت ع.