عـــاشـوراء.. وإيقاظ العقول

05-09-2020
نرجس مهدي
إن معركة عاشوراء أنموذج نادر من الصراع الحقيقي الحاسم في التاريخ، ميّز بين أولياء الله (عز وجل) وأولياء الطاغوت، ففي هذه المعركة تقرر مصير الإسلام، حين نهضت صفوة مؤمنة خالصة، وعلى رأسهم ابن بنت رسول الله J والصفوة المنتخبة من أهل بيته وصحبه ع، لمواجهة رؤوس النفاق والجاهلية، يدعو الفريق الأول إلى إقامة الصلاة والعودة إلى الإسلام، والآخر إلى الطاغوت والانقياد له.
يجسد الأول في سلوكه وقتاله أسمى القيم وأنبلها حتى في القتال، ويجسد الطرف الآخر أحطّ ألوان السلوك في ابتغاء الدنيا وملذاتها، وكان هذا التقابل العجيب في تكويناته بين الفئتين اللتين تقاتلتا في كربلاء، وبين أهدافهما، يعتبر واحداً من أغرب نماذج التحدي بين الحق والباطل .
كان معسكر سيد الشهداء ع امتداداً لأنبياء الله تعالى: (نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد، ع)، يحمل معه ميراث هؤلاء الصدّيقين، همومهم وطموحاتهم، ويعد معسكر يزيد وابن زياد (لعنهم الله) امتداداً لقابيل، وفرعون، والنمرود، والقتلة المجرمين على مدى التاريخ .
نتجت عن هذه المعركة دماء طاهرة زاكية، روت أرضاً قاحلة اخضرت بعد أن كانت بورا.
نعم: إن الشهيد قدوة رفيعة للوعي والعطاء معاً، وهذه الدماء تهَب الأحياء عزماً على الاستمرار ومواصلة الحركة والسير، وقوة على تجاوز العقبات والصعاب، تهَبهم القدرة على نكران الذات، وإن دماء الشهداء تعلّم الأحياء الكثير.
والغريب في هذه المدرسة العجيبة أن تلاميذها أحياء في عالم الدنيا، وأساتذتها أحياء في عالم الآخرة، وكل قطرة دم شهيد تتحول لبراكين من المقاومة والنهضة والتمرد على الظالمين في نفوس المؤمنين، تعلم كيف ينتصر المظلوم من الظالم، وكيف يستعيد المظلوم حقه ومكانه، ولهذا الدم قابلية في تحريك الضمائر الخاملة، ولا تهتز الضمائر الميتة والخاملة لأمر كما تهتز للتضحية والدم .
هذه التضحية هي إيقاظ للعقول، تنبيه للضمائر، وتحريك للنفوس.
تهز الإنسان من أعماقه، وتبعث فيه الحياة، تفتح مغاليق القلوب، وتفجّر كل الطاقات الكامنة في النفس، وتقلع الإنسان من مستنقع الحياة الراكدة إلى قممها العالية، وتمزق حجب التعلق بالدنيا من العيون .
هذه التضحية من دم الشهداء تزيل الخوف من القلوب الضعيفة، وتقضي على رهبة الموت، وتعطي للموت معنى الحرية، والانتقال إلى لقاء الله (جل وعلا).
ولدم الشهيد دور في توسعة رقعة التضحية داخل الأمة، وحسم الخلاف، وقطع التردد في طريق العودة على المهزومين سياسياً وفكرياً، وقبل أن يصبح دم الشهداء ساحة المواجهة بدمائهم، تتوفر بشكل واسع دائماً للصلح والتفاهم والنزول عن المبادئ والحلول النصفية .
أما عندما يُراق دم الشهداء في ميادين الحرب، فإن الأمر يختلف تماماً، وتنقطع الجسور بين هاتين الجبهتين، وتبقى المبادئ هي سيدة الموقف.
نعم، لقد وقف سيد الشهداء ع والثلة الطيبة من أهل بيته وصحبه وقفة الشموخ والإباء، ووضعوا دماءهم على أكفهم، ولبسوا القلوب على الدروع ملبين نداء إمامهم، إذ كان لابد للدم وللتضحيات أن تصحّح ما اعوجّ من الطريق لتسير عليه الأجيال.
وها هم أولاد علي والحسين ع يلبون نداء مرجعهم وقائدهم في إعلان الجهاد والدفاع والتضحية بالنفس .
لقد أعاد التأريخ الصورة مرة أخرى، فنرى الرجل المسن، والشاب العربي المسلم، والمسيحي، يداً واحدة .
أعطتهم كربلاء دروساً تربوا في حجرها، فولدوا أسوداً لا يرضون بالذلة جلبابا، أرضعوا الغيرة مع الحليب صغاراً، فنمت وترعرعت الحرية شجرة في قلوبهم .
وها هي الزمرة الفاسدة نفسها، والمبادئ هي هي، ولكن بمسميات مختلفة، فيخاطبهم أبناء الحسين ع بهذا الخطاب: والله لقد جئتم بالمكان الخاطئ، وتورطتم مع شعب عشق الشهادة وتعلمها دروساً في مجالس سيد الشهداءع، فصار صون الحرائر عندهم سجية شربوها من جود كافل الحوراء زينب ع، وكيف يستهينون بالموت ما داموا على الحق كمثل الأكبر شبل سيد الشهداء ع.
فهنيئاً لهذه القلوب الطاهرة، ولهذه الدماء الزاكية التي لحقت بقافلة سيد الشهداء ع، فصاروا مصداقاً لـ«يا ليتنا كنا معكم فنفوز فوزاً عظيماً».