النهج الرسالي .. .. الدعوة والابتلاء

05-09-2020
هاشم الصفار
قال تعالى في قصة طالوت:
«إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي»
جيش خارج للقتال، وقائدهم يأمرهم بعدم الشرب من الماء:
«إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ».
هنا تكمن أهمية الطاعة في تحقيق الفتح، مَنْ يخرج للقتال وما يصاحبه من مصائب ومصاعب، كيف له ألّا يطيع نبيّه أو قائده في الأمور الصغرى؟!
لماذا وعبر التاريخ، هناك من يخالف، وهناك من يعترض، وهناك من يتصوّر نفسه فيلسوفاً وعالماً، وأن الرسالة ينبغي أن يحملها هو بدلاً من الأنبياء ع؟!
قال تعالى:
« إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً...»
أمر إلهي طبيعي ولا مسوّغ للدخول في جدال ومعترك لا طائل منهما:
«قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً...»
هذا ما حصل عبر التاريخ الطويل لدعوة الأنبياء ع، ومعاناتهم مع المعترضين.
النبي J أمرهم بعدم النزول من الجبل في معركة أحد، وكانوا خمسين من الرماة، مصلحة المسلمين، ومصير الإسلام، متوقفان على إطاعة هذا الأمر، وليس الأمر مدعاة للتهاون، وإلا فالمصير مأساوي في كل أمر فيه مخالفة.
أنت لماذا خرجت أصلاً للقتال بجانب النبي ص اذا كنت تطيعه هنا، وتعصيه هناك؟
خرج رسول الله ص للحج ومنعته قريش، وتصالح معها (صلح الحديبية) على أن يأتي للحج في الأعوام اللاحقة، ورجع الى المدينة، وسط لوم المنافقين واعتراضهم على الصلح، وكأنهم أعرف من النبي ص بمصلحة الإسلام..!!
المرجعية الدينية العليا أمرت بإقامة الشعائر الحسينية وفق التدابير والشروط الصحية، وهي دعوة طبيعية في ظلّ الظروف الوبائية التي اجتاحت العالم، هل أستطيع إقامة الشعائر من عزاء، ومجالس لطم، ومراسيم، وطقوس، وفق الشروط؟ اذا كنت أستطيع فأقيمها، وإن لم أستطع فهناك عشرات الوسائل الأخرى لإحياء وتعظيم شعائر الله في مواقع التواصل، والمنتديات، والمدونات، واشاعة الحزن والسواد بالأعلام واللافتات في البيوت والشوارع، وغير ذلك، وتجنب التجمعات البشرية التي لا تراعي شروط الصحة والأمان.
الحزن العاشورائي غير خاضع للمزاد والمساومة، فهو فطري ينبع وينبض في قلوب ودماء الحسينيين منذ أن كانوا في عالم الذر، فلماذا ندع فجوة ومجالاً للصفحات الوهمية من المستعمرين والمتربصين بنا الدوائر أن توقع بيننا الشحناء، والبغضاء، والقيل، والقال، وهذا حسيني، وهذا أقلّ من ذلك أو أكثر..؟! الله يتوفى الأنفس حين موتها، وهو سبحانه (جل في علاه) يحكم بين عباده يوم القيامة.
إن الدين هو الطاعة للقائمين على مصالح المسلمين، الطاعة للقوانين التي تحفظ النوع البشري. إن الدين لا يُؤدى أو تُقام تعاليمه بالأمزجة والأهواء. المصلحة العامة فوق المصالح الفردية. تذوب القناعات الشخصية في بودقة قناعة العلماء الأجلاء، والخط المرجعي الحريص على حفظ الاسلام والمسلمين، كما كان حريصاً عليهم في التصدي للغزاة بفتاوى الجهاد على مر التاريخ.
المعاجز تحصل بحكمة الله، واذنه، ومشيئته، ورؤيته لمصلحة البلاد والعباد، ولو كانت الأمور بالمعاجز، وأن الزيارة والتجمعات العزائية بدون التحفظ، والرعاية، ومراعاة الشروط الصحية، تمنعان بالضرورة الاصابة بالوباء، فكان الأحرى بسيد الشهداء ع أن يسحق أعداءه بدعاء واحد اتكاءً على المعجزة..؟! ويلبّي له الله تعالى ما يريد لكرامته وشأنه العظيم عنده سبحانه، لكنه واجه الموت بالأسباب الطبيعية، ولم يرمِ نفسه هكذا بين السيوف بلا حول أو قوة، إلقاءَ النفس في التهلكة، بل عمد إلى التخطيط للمعركة، وتوزيع مهام الجيش من رماة وفرسان، وكل له مهمة ودور، وحفر الخندق، واضرام النار فيه، منعاً من هجوم الأعداء من وراء الجيش من جهة الخيام، وغير ذلك من أمور التعبئة القيادية الحكيمة التي ورثها من جده وأبيه ع.
الإمام الحسين ع لم يخطط للموت، بل خطط للحياة، خطط للنصر، خطط لحاضر الأمة ومستقبلها، وحين يقول ع:
(إني لا أرى الموت إلا سعادة .. والحياة مع الظالمين إلا برما)
كان يقصد الموت بحرية وكرامة وعز، ورفض حياة العبودية والذلة والخنوع، ولم يقصد أني أريد الموت هكذا بلا هدف، بلا تخطيط للنصر، بلا الأخذ بأسباب الظفر..!!
لماذا لا نقرأ عاشوراء قراءة واعية متأنية في كل عام؟ هل أضافت لنا شيئاً؟ هل حركت فينا الشعور بالمسؤولية تجاه أنفسنا ونجاتها، تجاه الإسلام ورفعته، تجاه المجتمع وحفظه وحمايته من كل ضرر وآفة؟ هل علمتنا عاشوراء على الطاعة، وترك الجدال، وتبادل الاتهامات والتهكمات؟
في زمن الطاغية صدام كان المجتمع الحسيني يقيمون العزاء في البيوت والبساتين بعيداً عن عيون الطغاة والجلاوزة، ليس الأمر بالجديد على هذا الخط، الخط الحسيني الثوري التضحوي، منذ الواقعة الأليمة وعبر مئات السنين، تعرضت النهضة الحسينية ومن ناصرها إلى النكبات، والتقتيل، والتشريد، واقامة طقوس العشق الحسيني سراً؛ لأن المصلحة اقتضت حفظ النفس، مع الإبقاء على خط الشعيرة، ونهج التعظيم للحسين ع ودستوره الخالد.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين.
السلام على الحسين، وعلى أولاد الحسين، وعلى أصحاب الحسين الذين بذوا بذلوا مهجهم دون الحسين ع.