ساحر الأجيال وراهب المعنى.. سامي عبد الحميد أنموذجاً
19-08-2020
عدي المختار
قليلون هم المسرحيون الذين حافظوا على وهجهم، وكانوا إيقونة تعليمية مستمرة لكل الأجيال، ولم تغلفهم الكلاسيكية، أو تغيبهم المرحلة, لا بل إن هذا القليل من المبدعين حافظ على أدائه الابداعي حتى آخر رمق من الشيخوخة، وظل متوهجاً في العطاء، وساحراً في الأداء، وراهباً في منح المعنى معنى آخر من الفخامة والهيبة.
لعل في العراق يقف في مقدمة هؤلاء المبدعين العصيين على النسيان عميد المسرح العراقي الدكتور سامي عبد الحميد الذي بقي لآخر لحظات عمره درساً مستمراً للأجيال في تحقيق المعادلة الشكسبيرية (أكون أو لا أكون)، فكان على الدوام هو الساحر والمعلم والمتجدد, فهذا الراهب الكبير في المسرح العراقي بات ظاهرة مسرحية تجد وتجتهد كثيراً؛ كي تلحق بها إبداعياً أو قد لا تلحق, فكيف عاش؟ وما هي مسيرته التي صنعت منه ذلك الساحر والراهب بامتياز؟ هي ما يجب أن يقتفيها كل مشتغل في المسرح؛ كي يتعلم كيف يكون أو لا يكون.
في مدينة السماوة مركز محافظة المثنى عام 1928 أبصر النور سامي عبد الحميد لعائلة من طبقة النبلاء؛ كون والده كان مدير المال في الحكومة العراقية آنذاك, عشق الفن والمسرح، واعتلى خشبته لأول مرة في مدينة تكريت، حينما كان طالباً في متوسطة التفيّض الأهلية بعد أن لعب دوراً في مسرحية (البخيل) للشاعر الفرنسي موليير، ولبراعته في المسرح أكمل دراسته الإعدادية في مدينة الديوانية، ومن ثم أكمل الحقوق في بغداد، ودرّس العلوم المسرحية في كلية الفنون الجميلة بجامعة بغداد، وحصل على ليسانس الحقوق ومن ثم دبلوم من الأكاديمية الملكية لفنون الدراما في لندن، وشهادة الماجستير في العلوم المسرحية من جامعة أوريغون في الولايات المتحدة الامريكية. كتب ومثّل وأخرج العديد من الأعمال المسرحية العالمية منها والعربية والعراقية, وشغل منصب رئيس اتحاد المسرحيين العرب، وعضو في لجنة المسرح العراقي، وعضو في المركز العراقي للمسرح، ونقيب سابق للفنانين العراقيين, وتزوج من الممثلة فوزية عارف، وأنجب منها ابنته الإعلامية أسيل عبد الحميد، وانضمّ مبكراً لفرقة المسرح الحديث منذ وقت تأسيسها عام 1959، وشارك في أغلب أعمالها في الإخراج والتمثيل. على خشبة المسرح كان هو العارف والمتبصر في تقديم عروض تحفظها الذاكرة المسرحية من عثة النسيان، فقدم أهم التجارب المسرحية العراقية إخراجاً أهمها: (ثورة الزنج، وملحمة كلكامش، وبيت برناردا، وألبا، وأنتيغوني، والمفتاح، وفي انتظار غودو، وعطيل في المطبخ، وهاملت عربياً، والقرد كثيف الشعر). كان يعي ما يريد عبر طرح هذه القضايا مسرحياً، وهو الباحث عن وعي المجتمع وتحفيزه نحو المجتمع المثالي المفترض، حتى في الأعمال التي لم يكن فيها مخرجاً كانت له بصيرته الابداعية في قبول أي من الأدوار التي تبقيه خالداً في وجدان المتفرج، فمثّل في أهم الأعمال المسرحية وهي: مسرحية (النخلة والجيران) للمخرج المسرحي الراحل قاسم محمد، ومسرحية (بغداد الازل بين الجد والهزل)، وأيضاً للمخرج المسرحي الراحل قاسم محمد، ومسرحية (الإنسان الطيب) للمخرج المسرحي الراحل عوني كرومي، ومسرحية (انسو هيروسترات) لمؤلفها العالمي غريغوري غورين، وإخراج الراحل فاضل خليل، ومسرحية (قمر من دم) أيضاً إخراج الراحل فاضل خليل، ومسرحية (غربة) اخراج الدكتور كريم خنجر.
أعمال أبقته عصياً على النسيان دوماً، وفي رحلته مع السينما كان هو ذاته ذلك الفنان المتبصر في قبول الأعمال السينمائية التي تبقى في ذاكرة المتفرج دوماً، ولا تغادر مخيلته، فكانت مسيرته مع فلم (من المسؤول؟ - 1956) إخراج عبد الجبار ولي، وفيلم (نبوخذ نصر 1962) إخراج كامل العزاوي، وكان أول فيلم عراقي ملون.
وفيلم (المنعطف 1975) إخراج جعفر علي، وفيلم (الأسوار 1979) إخراج محمد شكري جميل، وفيلم (المسألة الكبرى 1982) أيضاً من إخراج محمد شكري جميل، وفيلم (الفارس والجبل 1987) إخراج محمد شكري جميل، وفيلم (كرنتينا) للمخرج الشاب عدي رشيد. ومن يتابع بتمعن رحلته مع التلفزيون، يعرف أننا أمام عقلية فنية نتحدث, ففي التلفزيون المساحة الأخطر على الفنان عرف كيف يحجز مقعده في ذاكرة الدراما، فاختار بتمعن وبصيرة ادواره التي اتسمت بدقة الاختيار والتأثير في مسلسل (النسر وعيون المدينة) عام 1983، وفي مسلسل (رجال الظل) عام 1997، وفي مسلسل (أبو جعفر المنصور) عام 1998.
ولم ينسَ يوماً أن الكتابة حفظت للسومريين والبابليين والآشوريين والفراعنة تاريخهم، فراح يكتب ويبحث ويقدم تجربته على ورق، فألف كتباً عدة منها: (فن الإلقاء، وفن التمثيل، وفن الإخراج), فيما ترجم عدة منها: (العناصر الأساسية لإخراج المسرحية لألكسندر دين، وتصميم الحركة لأوكسنفورد، والمكان الخالي لبروك)، وفيما كتب عشرات البحوث من أهمها: (الملامح العربية في مسرح شكسبير، والسبيل لإيجاد مسرح عربي متميز، والعربية الفصحى والعرض المسرحي، وصدى الاتجاهات المعاصرة في المسرح العربي). حضوره الساحر في المسرح والسينما والدراما، كانت جواز سفره للمشاركة في مهرجانات مسرحية عدة، ممثلاً ومخرجاً أو ضيفاً منها: (مهرجان قرطاج، ومهرجان المسرح الأردني، ومهرجان ربيع المسرح في المغرب، ومهرجان كونفرسانو في إيطاليا، ومهرجان جامعات الخليج العربي، وأيام الشارقة المسرحية).
لم تكن الجوائز مبتغاه، بل كان العطاء غايته ومنتهى مناه، إلا أن مسيرته سجلت حصوله على الكثير من الجوائز والأوسمة منها: (جائزة التتويج من مهرجان قرطاج، ووسام الثقافة التونسي من رئيس جمهورية تونس، وجائزة الإبداع من وزارة الثقافة والإعلام العراقية، وجائزة أفضل ممثل في مهرجان بغداد للمسرح العربي الأول، وجائزة التجريب من مهرجان المسرح التجريبي بالقاهرة, وآخر تكريم له هو اطلاق شرف اسمه على مهرجان محترف ميسان المسرحي الدولي أونلاين 2020).
توفي صباح الأحد 29 سبتمبر 2019 في العاصمة الأردنية عمّان عن عمر ناهز الواحد والتسعين عاماً، بعد صراع مع المرض، قضى كل سنوات عمره في التجريب والكتابة والبحث، وتقديم كل ما هو متجدد للأجيال التي درّسها أو التي عمل معها، فكان بحق مايسترو الأجيال, فمن كان يرى ذلك الأداء الساحر والصوت الكهنوتي على الخشبة في عرض واحد يتعلم ألف ياء المسرح كلها من ساحر عرف كيف يطوّع المسرح بأدواته الفذة، ويحيله الى مكان مقدس تتطهر فيه الروح من أدرانها.
لم يكن يقدم مسرحاً بمعناه، بل كان يقدم روح الكلمة، ومعنى الموقف، وفخامة الانسان المفترض, سامي عبد الحميد استطاع أن يغيّر التجربة المسرحية، ويجعلها على مر الأجيال تختصر به لا العكس.