عـطـــايـــا الـمـبــاهلة
19-08-2020
زبيدة طارق
لم تمضِ سوى لحظات، حتى بان شخصه المقدس يسمو في خشوع وبهاء، جاء رسول السماء الى الأرض يمشي على قدميه، ولا شيء يضاهي وجهه المتلألئ الندي، وثغره الباسم يحمل فجراً حسينياً مشعاً على ذراعه الشريف، ومع التفاتته الكريمة، يخرج قمر حسني عن مداره، فيمسكه بين يديه، وخلفهم يلمع نجم الزهراء تتألق فوق تألق النهار رغم ستر حجابها المجلل بالنور.
من بعدها يطلع شعاع شمس علوي في غير موعده، شعاع وضّاء ينفذ الى عمق الفضاء، جاء رسول الله مع أهل بيته أصحاب الكساء (عليهم آلاف الصلاة والسلام) وتحيطهم هالة من أنوار العصمة، وقد اصطفت على جانبي الطريق مواكب الملائكة؛ لتشهد وهي تزفهم بالبشائر في هذا العرس الإلهي على بساط الورد والياسمين.
وعندما رأى نصارى آل نجران هذا المشهد المهيب، تزلزلوا برعشة الخوف، وارتعدت فرائصهم لهول ما ينتظرهم، فكل خطوة من أقدام الطاهرين كانت تقتل زيف غرورهم وتذيب ثلج غدرهم، في تلك اللحظة عادوا بفكرهم إلى الماضي القريب، حيث كان حوارهم مع رسول الانسانية محمد J وهم يسألونه عن نبي الله عيسى A:
- ما تقول في السيد المسيح؟
فجاءهم الجواب بما أوحاه الله عليه بأنه عبد الله اصطفاه وانتجبه.
فبادره الأسقف وهو يظن أنه وجد الحجة الدامغة:
- أتعرف له يا محمد أباً ولده؟
- لم يكن من نكاح حتى يكون له والد؟ أجابه النبي J بثقة الموقنين.
تبسّم الأسقف تبسّم المنتصر الواثق، وقال:
- فكيف نقلت أنه عبد مخلوق، وأنت لم ترَ عبداً مخلوقاً إلا عن نكاح وله والد؟
هنا جاءت الحجة الفاصلة بين الصادق والكاذب، قرأ النبي محمد J: «إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ» (سورة آل عمران: 61).
كانت الشفاه الكريمة تلهج بما نزل به الروح القدس من آيات السماء، أغلقت كل باب للحوار، فلا مجاملات ولا مجادلات، فما كان جوابهم إلا طلب المهلة للغد القريب؛ ليكون يوم الرابع والعشرين من ذي الحجة شاهداً آخر على عظمة أهل البيت D بلا تشكيك، وشاهداً على جحود النصارى وغيهم.
تذكروا كلمات قالها لهم الحبيب، غداً سنلتقي لتنزل بنا رحمة الله للعالمين، وعذابه على الجاحدين، غداً تورق بنا حجة الله البالغة عليكم، غداً سيتوهج بنا الحق ليصبح ضياء، وتصغي الألباب إلى حديث المباهلة، وتتغنى به عيداً بتسابيح الشكر على نعمة الولاية.
تذكروا وعد النبي الهاشمي، واليوم رأوا رأي العين وجوهاً لو سأل الله بها أن يزيل بها أحداً من مكانه لأزاله، فاستحال سلامهم الموهوم إلى علل تنهش الجسد، تتقاذفهم الهواجس والأهواء، وأيقنوا أن كيدهم في تضليل، وسينال منهم الشتات، فلا أهل ولا مال سينفعهم وسيفتضح لكل الألباب جهلهم وأليم العقاب ينتظرهم، فحملوا أثقال خسارتهم وخيبتهم وأعطوا الرضا لمقام النبي J مقابل اعفائهم من المباهلة، فقبل الكريم الذي وسع برحمته العالم لأمر قد قدر، لنحتفي اليوم برايات الفوز الإلهي، ونحن نفشي اسرار تجليات الحق فنستضيء فيه بشموع اللقاء الكبير.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر:
ميزان الحكمة: ج1/ ص٣١٦.