(عبق الطلع ورحيق التنور) سياحة استذكارية في بعض محطات الأديب الكبير محمد علي الخفاجي الإبداعية

29-05-2020
خاص صدى الروضتين
لا أستطيع السيطرة على الدموع، وأنا أستذكر صديقي المرحوم محمد علي الخفاجي، ولا أستطيع لملمة الذكريات التي امتدت على زمن عمره يقارب النصف قرن.
في نهايات الستينيات، كنت ما أزال أحبو في رياض الشعر الواسعة، أحاول أن أزرع اسمي بجانب الأسماء التي كانت باسقة كالنخيل. كنت أعرفه شاعراً كبيراً ومربياً فاضلاً ومحترماً من الجميع، ومتميزاً بعطائه الثر، وابداعه المتواصل. وكان من اهم شعراء كربلاء آنذاك الذين تنشر قصائدهم الصحف العربية: كالآداب البيروتية. وكنت من القراء الذين يتابعون كتاباته ودواوينه التي كان يصدرها في تلك الفترة. وكنت اقتني كل الدواوين الصادرة له مثل: (شباب وسراب، مهرا لعينيها، لو ينطق النابالم).
وفي احد الأيام، كنت اقلب ديوانه (انا وهواك خلف الباب) الصادر حديثا والمعلق على واجهة مكتبة الفرات، وكنت اتناقش انا وصاحب المكتبة المرحوم الشاعر مجيد الفراتي حول الديوان؛ لأن هناك بعض الأوراق المقصوصة في الديوان، ويبدو ان الشاعرمحمد علي الخفاجي صاحب الديوان كان واقفاً خلفي ويستمع لنقاشنا فتدخل وشرح لي سبب هذا القص، اذ كان هناك من أوصل للأمن اخباراً عن الديوان بأنه يتعرض للثورة، في حين كان الديوان كله قصائد غزل، ودخل الشاعر في سين وجيم الى ان اقتنع ضابط الامن بأن القصائد غير سياسية، لكنه اصر على حذف بعض الكلمات، ولذلك قام بقص بعض الأوراق.
ومن هنا بدأت العلاقة تتطور بشكل حميمي، فأصبحنا نلتقي باستمرار، وفي سنة 1975صدر عن وزارة الثقافة والاعلام ديوانه الجديد (لم يأت أمس سأقابله الليلة) اقتنيته من مكتبة الفرات وكنت فرحاً به، وبعد خطوات من المكتبة وجدته امام مقهى الصراف، فلوحت له بالديوان ففرح بصدوره.
وبعد فترة من صدور الديوان، تناوله الكثير من النقاد واثنوا عليه، ولكن احد النقاد كتب عنه مقالة تختلف بعض الشيء عما كتب، فكان يمدح من جهة ومن جهة أخرى يتجنى على الديوان بأسلوب غير نقدي، وكان الخفاجي وبعض الادباء يعرفون الأسباب من وراء ذلك، انها أسباب شخصية، وهذه الأسباب حفزت بعض الأدباء في كربلاء أن يقيموا أمسية للناقد حول ديوان الخفاجي.
وتحدث الناقد بنفس الأسلوب السابق، فتصدى له الشاعر والكاتب الأستاذ محمد زمان بدراسة كانت قد اعدت من قبل عن الديوان، وفند كل آرائه التي لم تكن اراء نقدية واتهمه بالتجني على مبدع كبير، وقال: على الناقد ان يبتعد عن الأمور الشخصية مما جعلني اتحدث بشكل انفعالي، واتهم البعض بالغيرة من محمد علي الخفاجي والحسد لما وصل اليه وخلّفهم وراءه، وما دعوة هذا الناقد بالذات الا مؤامرة تستهدف منجز الخفاجي الابداعي.
وتستمر العلاقة وتتعمق بشكل كبير، كنا نذهب معاً كل أسبوع تقريباً الى بغداد برفقة بعض الأصدقاء منهم: الشاعر شاكر البدري، والفنان التشكيلي نجاح الخالدي، ومجموعة أخرى من الأدباء والفنانين نذهب لنشاهد مسرحية او فلماً جديداً او معرضاً تشكيلياً أو أي فعالية ثقافية تقام في العاصمة الحبيبة، وعندما اقتنى سيارة سنة 1976 تفتحت لنا أجواء أخرى فقد كنا نذهب الى بغداد باستمرار كما كنا نذهب الى بابل والنجف والمثنى وواسط وديالى وغيرها من المحافظات لحضور النشاطات الثقافية هناك.
لقد تعرفت من خلاله على نشاطات اتحاد الادباء المركز العام ودخلت معه الى مؤسسة الاذاعة والتلفزيون، وكنا نزور الاديب الدكتور محمد عبد فيحان الذي كان موظفاً هناك ويقدم برامج ثقافية عدة من خلال الإذاعة، وتعرفت على مقرات الصحف التي كانت تنشر له قصائده ومقالاته الأدبية.
كانت أفكارنا متقاربة جداً، بل تكاد ان تكون متطابقة، وكنا نتفق على الكثير من الاحداث التي تجري في العراق والوطن العربي، بعدما أطلق عليها مجزرة أيلول التي وقعت للفلسطينيين في الأردن، ذهبنا الى المنظمة الشعبية لتحرير فلسطين لنتطوع لمناصرة الفلسطينيين في الأردن، وانتهت المعركة قبل ان تتم دعوتنا نحن وغيرنا من المتطوعين.
كلما كان يصدر الخفاجي مسرحية او مجموعة شعرية ويشارك فيها في المسابقات التي تقام في العراق او خارجه كانت تفوز بجائزة مهمة، وهذا ما أثار حفيظة وحسد الآخرين له, عند صدور مسرحية الكبيرة (ثانية يجيء الحسين) وتفوز بجائزة الدولة واهتمام الفرقة القومية للتمثيل بها، والاستعداد لتمثيلها، حاول بعضهم اقامة الدنيا عليها ليحيلوا دون تمثيلها بحجة لا يجوز تجسيد شخصية الامام الحسين على المسرح، مما دفع الفرقة أن تطلب منه جلب فتوى من المرجعية الدينية، وتحركنا على الحوزة في كربلاء والنجف، وكانت هناك موافقات وهناك ممانعة، واستطاع الخبثاء اجهاض هذا العمل الجبار.
ومسرحية (ثانية يجيء الحسين) هي اول عمل مسرحي شعري ملحمي حديث يتناول معركة الطف وشهادة الامام الحسين A وانعكاساته على الحاضر بشكل معاصر، كتبت المسرحية بعد نكسة حزيران سنة 1967م.
وعندما كتب مسرحيته (أبو ذر يصعد معراج الرفض) واشترك فيها بمسابقة اليونسكو وفازت بالجائزة الأولى وقف الكثير من الادعياء ضدها، وكتبوا لليونسكو بأن المسرحية تخالف شروط المسابقة لكونها مُثلت في العراق، مما جعل المنظمة تراسل الكاتب، وتسأله إن كان هذا صحيحاً، إلا أنه أثبت العكس، وأثبت زيف هؤلاء الحاقدين, وحرضوا السلطة عليه ليتخذ المحافظ قراراً بعدم إعطائه إجازة للسفر الى تونس لحضور الاحتفاء هناك، واستلام الجائزة، وحين علمت المنظمة بذلك ارسلت جائزته الى اتحاد ادباء العراق لتسلم الى الكاتب.
أعلنت وزارة الزراعة عن مسابقة مسرحيه للمسرح الفلاحي ويشترك بمسرحيته الشعبية (وادرك شهرزاد الصباح) وفازت المسرحية بالجائزة الأولى، وقفت (الشلة) نفسها للحيلولة دون تمثيلها، وتمثيل المسرحية التي فازت بالجائزة الثانية، ويقابل الوزير ويأمر بتمثيلها من قبل المسرح الفلاحي، وهذه المواقف الحاقدة لاحقته في كل اعماله الشعرية والمسرحية.
فازت أعماله كلها في المسابقات العراقية والعربية التي اشتركت فيها, في سنة 1977 تشكل المنتدى الثقافي في كربلاء والتابع لمديرية الثقافة الجماهرية وتشكلت لجنة لإدارة نشاطاته الأدبية من الأدباء: محمد علي الخفاجي، شاكر البدري، عدنان الغزالي، جبار عبد الحسين، حسين الخزوجي، علوان الطائي، عودة ضاحي التميمي. ولقد قدمت هذه اللجنة برنامجاً هائلاً وطموحاً لمدة ستة اشهر، برنامجاً متنوعاً فيه الشعر والمسرح والمحاضرات الثقافية والفنون التشكيلية وفن الكاريكاتير وافلام الكارتون كما كانت القصة والرواية حاضرتين في هذا البرنامج، وبعد أسابيع قليلة بدأ الاختلاف بين أعضاء اللجنة حتى اصبح الأعضاء لا يأتون إلا في وقت الأمسية ليجلسوا في الصف الأول، واضعين ارجلهم الواحدة فوق الأخرى, لذلك اخذ الشاعر محمد علي الخفاجي والشاعر عودة ضاحي التميمي على عاتقهما تنفيذ فقرات البرنامج ونفذت الفقرات كلها فعلاً، وبعد ان انتهت الفقرات وتم التحضير لبرنامج جديد انسحبنا انا والخفاجي، واللجنة الجديدة لم تستطع ان تنفذ من الفقرات إلا فقرة واحدة وانتهى هذا النشاط تماماً.
الخفاجي كان أديباً راقياً ومثقفاً وطنياً، لم ينتمِ لأي حزب كان، لقد حاول معه الشيوعيون وفشلوا، وحاول البعثيون وفشلوا أيضاً، لذا قرر البعثيون محاربته ومحاصرة نشاطه الإبداعي، فنقلوه من التدريس الى الضريبة، وعدم نشر أي نشاط ابداعي له, وكان احد شعراء السلطة يصرح مفاخراً بأنهم انهوا محمد علي الخفاجي ابداعياً, واخذوا يضايقونه، فقرر الانتقال الى بغداد وابتعد عن الشعر والشعراء لأكثر من عشرين سنة لم ينشر ولم يشترك ولم يزر اتحاد الادباء، ولا أي مؤسسة أدبية او ثقافية, لكنه وجد في هذه العزلة متسعاً لكتابة مسرحيات شعرية ذات قيمة إبداعية متطورة قرأناها حين طبعت بعد السقوط, وهي في المسرح اصدر: (ذهب ليقود الحلم، حرية بكف صغير، نوح لا يركب السفينة، الحسين واقف في يساري).
كما أصدر اوبرا سنمار، واوبرا كاوا الحداد، وفي الشعر أصدر بعد السقوط: (البقاء في البياض، والهامش يتقدم).
والمعروف انه أصدر قبل السقوط عدداً من الدواوين الشعرية، وعدداً من المسرحيات وكما يلي في الشعر:
(شباب وسراب، مهرا لعينيها، لو ينطق النابالم، انا وهواك خلف الباب، لم يأت أمس سأقابله الليلة، يحدث بالقرب منا).
وفي المسرح أصدر: (ثانية يجيء الحسين، أبو ذر يصعد معراج الرفض)، وحازت دواوينه الشعرية ومسرحياته على جوائز عراقية وعربية، كتب قصيدة عني بعنوان (كتاب) ونشرها في مجلة الأقلام سنة 2002، وضمّها ديوانه (البقاء في البياض) قدمها بما يلي: (كتاب في السوق ظل نظيفاً رغم تلوث باقي الكتب، الى صديقي الشاعر عودة ضاحي) منها:
(البياض بداهته، والبياض المثابة..
وله في البياض من البجعات الجميلات شرفة اعناقهن،
وفضة اصواتهن المذابة..
السواد الذي فيه، لون بلال، والبياض الذي فيه، صدق الصحابة..).
بعد السقوط، أصدر مجموعة شعرية اسماها (الهامش يتقدم) تعبيراً عما عاناه من قبل العهد المقبور، فآلمني العنوان، فكتبت قصيدة بنفس العنوان ونشرتها في صحيفة الصباح، وفي الصحف الكربلائية، وضمنتها مجموعتي الشعرية التي أصدرها اتحاد ادباء كربلاء بعنوان (ودعني كي القاك) واهديتها له، منها:
(... وحينما تحرر الجواد من قيوده.. تقدم
وحينما تخلص الحسام من حصاره.. تقدم
لم يكن الهامش لينام على قارعة النسيان
كان عطرا يصاحب العاشقات
اثناء تألقهن في مساءات الوله الباذخ
لم يكن الهامش.. كان في استراحة المحارب
يحاور الرؤيا.. تحاوره
يهدهد جرح الشعر
يستل الليط النائم في عينيه
ويسقي التال نزيف القلب..)
بعد السقوط وبعد عمليات التهجير عاد الى مدينته الحبيبة، عاد الى كربلاء وبعودته عادت العافية والبسمة للقصيدة، وعادت الأيام الجميلة والاماسي الراقية, كان يتجمع اتحاد الادباء في مقر التجمع الكربلائي؛ لأن الاتحاد ليس لديه مقر، وقد اعددنا برنامجاً طموحاً استمر لأكثر من سنتين، وكانت له أمسية استذكارية رائعة قدمه الشاعر الجميل فاضل عزيز فرمان، وكانت هناك الكثير من المداخلات والكلمات التي تحتفي به وبمنجزه الإبداعي, وتحدثت انا عن استذكاراتنا الجميلة، ولقد احتفت به الكثير من المنظمات الجماهيرية واقامت له امسيات تكريمية اعترافا بنزاهة مواقفه السابقة وبياض وجهه وابداعه.
كما احتفى بعودته للساحة الأدبية الاتحاد العام للأدباء في العراق، وعاد الى بغداد بعد استقرار الوضع بعض الشيء ومن هناك واصل نشاطه الادبي في فعاليات الاتحاد في بغداد وفي محافظات العراق الأخرى.
وبعد فترة من انتقاله الى بغداد أصيب بمرض عجز الكلتين، واخذ يغسل كليتيه في الأسبوع اكثر من مرة بدون أي مساعدة من الحكومة التي همشت المثقف بشكل كامل، ومن غرائب هذه الحكومات التي تسلطت على رقاب الشعب العراقي الصابر كنت يوماً في زيارته في بيته واقرأ على شاشة الفضائية الرسمية العراقية خبر ارسال رئيس الوزراء مبعوثاً شخصياً لزيارة الشاعر محمد علي الخفاجي، وتكفلت الحكومة بمعالجته، وعندما سألته عن الخبر نفاه تماماً..!
وبعد أسبوع، اتصلت به وسألته عن الخبر، فقال: اتى أحدهم الى البيت ونقل لي سلام المسؤولين وتمنياتهم لي بالشفاء وذهب، وزارته احدى الفضائيات وأخبرها بنفس الخبر الذي أخبرني به، وفضحت زيفهم الفضائيات العراقية ولكن دون أن يخجلوا من كذبهم.
ويموت محمد علي الخفاجي، يموت صاحب الانجازات الأدبية الإبداعية الكبيرة وتتناقل خبر وفاته الكثير من الفضائيات العراقية والعربية، ويشيع من اتحاد ادباء العراق حسب وصيته، وتشيعه القلوب النازفة والعيون الباكية، وتستلم نعشه كربلاء بعيون دامية ليرقد رقدته الأخيرة في مدينته التي عشقته وعشقها، وكتب لها أجمل القصائد.
طالبنا بإطلاق اسمه على شارع او مَعلَم من معالم كربلاء، واطلق اسمه على احدى المدارس في المدينة، واقام اتحاد الادباء في كربلاء أمسية شعرية بمناسبة مرور سبعة أيام على رحيله، وامسية أخرى في اربعينيته، وكذلك أقيمت امسية له في نادي الكتاب، وقدمت بعض اعماله المسرحية من قبل بعض الشباب في المنظمات الجماهيرية.
كذلك اقام اتحاد ادباء كربلاء مسابقة شعرية باسمه، وخصص لها جائزة كبيرة، رحل الشاعر محمد علي الخفاجي جسداً، لكنه بقي روحاً ترفرف في سماء الابداع العراقي والعربي، وفي الختام لنشيع ذكراه بسورة الفاتحة.