قراءات في النص الإبداعي (على ضفاف الكوثر) للكاتبة: رجاء محمد بيطار

29-05-2020
لجنة الدراسات والبحوث
الأسس الابداعية التي تقوم على صرح ورشة ثقافية تحاورية، تجمع فيها القراءات والتصورات؛ سعياً من صدى الروضتين في صناعة حسّ نقدي عند مبدعاتنا، تطرح فيها النصوص المبدعة، ثم تحاور من قبل الأديبات المشاركات في الندوة مع حضور صدى الروضتين، وضعت على طاولة الندوة نص (على ضفاف الكوثر) للكاتبة اللبنانية رجاء محمد بيطار.
(النص)
خربة الشام، الخامس من صفر، سنة إحدى وستين للهجرة على مشارف الفجر ألقيت رحلي، جسداً يتلوى على ضفاف الكوثر، ظلمة داجية، يداي ممدودتان إلى الأعلى، أرى شعاعاً، طيف دفء يتناثر، يمتلئ المدى سطوعاً من ضياء، وافرحتاه، هي شمسك تشرق على قلبي وعينيّ، هو جبينك الوضّاء يطلّ عليّ بعد طول غياب..! أي وا أبتاه، لقد آن أوان اللقاء..! ها أنت تهبط من عليائك، تفتح ذراعيك وتدعوني: "بنيتي رقية، إليّ، إليّ" تمتد يداي إلى يديك، وناظراي الظامئان لنورك إلى ناظريك، وروحي الفياضة بالحنين تفيض وتنسكب عند قدميك.
أبتاه، دفء شعاعك يملأ صقيع قلبي، وجودك الملكوتي يحتويني، وخفقات قلبك تملأ أذنيّ بنغمات طال شوقي لسماعها، وعبير أنفاسك يملأ كل حواسي بعطر الجنة، هو ذا أذان الفجر يرفرف في سمائك، هو ذا مصلاك ينتظرك، هي ذي أنا، أتغلغل في نورك، وأصلي، وفجأة يزعق في الوجود نعيق، أفتح عينيّ، ويملأني الفراغ.
أبتاه،الآن كنت معي، والآن لست أراك، الآن جمعت أشتاتي، والآن بعثرني نواك، الآن كنت بين يديك، كنت أنام في مأواك، والآن، ما لي لا أراك؟! ماذا أقول؟! وأصيح مثل النجم إن آن الأفول: "أبتاه، لا، لا أستطيع، يا شمس أيامي، بغيرك لا حياة ولا ممات ولا فصول، ولا شتاء ولا خريف ولا ربيع".
وأرى حواليّ النساء، أرى الجموع، أرى الجميع، والكل يهتف: "اصمتي..!" لكنني لا أستطيع وإذا بصوت منكر من خارج الكهف يصيح، وإذا بجلفٍ قادم، وعلى يديه طلاسم يضع الوعاء، ينوء من ثقل، وكأنما يضع السماء!: "عمتي، أنا ما رمت زاداً، عمتي، ما رمت ماء، ليس الذي عندي جوع أو ظمأ".
تردّ بالدمع ينساب كأمطار السماء: "بنية رقية، إن ما تبغين في هذا الوعاء!" أدنو، أحس برعدة، هو منبع النور دنا وأطلّ!، لا! لا ليس حقاً ما أرى! هي صورةٌ، وهمٌ، سراب!، لكن نورك ساطعٌ!!.
أبتــاه، قد عمّ المدى لون النجيع! أبتاه، شمسك بل سماؤك، والربيع! والفجر يبكي مثلما قلبـــــي، وأنفاسي تضيع، أبتــاه، وأمدّ كلتي راحتيّ مجاهدة، وأحيط رأســــــك وحـده؟! أين البقيــة؟! أين الــيـداـن تضمـّــــني؟! أين الفــــــؤاد؟
بشجوِ خفقه أحتــــمي، ويلفـــّـــــني؟! أين البقيـــــــة؟! وأحيط رأســــك، أحتويــــه فيحتويــــني، وأضمــّــه، قد طــــــال عني بعده فيضمّـــــني، نبقى معاً! أبتــــاه، من حــــزّ وريــــدك؟! إنــــه حـــزّ وريـــدي! أبتـــاه، كيف أتـــاك؟!، وكيف كان للسيف أن يحتـــزّ جيــــدك؟! وعليـــه من أنفـــاس جــــدك بلســـمُ، ومن عنـــاقه ثم لثمـــه مرهمُ، أبتـــاه، وأمدّ كفّي الصاعدة، أغرق وجهي في دمـــاء نحــــرك في عنـــــاق، أبـــتــــاه، بالذي تهــــواه، بالبــــاري سألتك، لا فراق! بحق أمك، إنها أم أبــــيـــها! وهي كانت بعده الأولى، على درب اللحاق، وأنــــا أم أبـــــــي! وأريد أن أمضي كما أمي إليك.
أبتــــاه، صوتٌ من عروق النـــحر يدعونـــي، يناجينــــي: "بنيـــة رقيـــة، إليّ، إليّ," أبتـــاه, لبيـــك، لبيـــــــــك! وتستحيل الظلمة نوراً، ويجتاح كياني نورك العلوي، ومع شهقة النشــيج المكتوم تبلغ روحي الحلـــقوم، ظمأٌ كان يجتاح حنجرتي، فارتوى، وقيدٌ كان مطبقاً فانفلت، وجنـــاحٌ أخضر ينطلق، يطير نحوي، يتناول كأس جدي، هو عمي العباس ها قد جاء يسقيني! هو ذا أبي قد جاء يحميني، فأهبّ نحوه كالصباح، وكنسمةٍ ذات جناح, لا ألم أحس ولا عناء، بل أرتمي في حضنك الدافئ، أوسّد رأسي على عاتقك المقدس وأصغي لخفق فؤادك، فأهدأ وأرتاح! وأرنو إلى الوراء، أرى جسداً صغيراً مكوّماً فوق الأديم، يضمّ رأساً مضمخاً بالدماء، ويهمس في أذني وأنا أتابع الارتقاء، صوت أخي السجاد، ينادي بشجوٍ حزين: "عمة زينب، ارفعي أختي عن رأس والدي" فترد عمتي كالحائرة، وهي تكفكف بعض ما فاض من دموع ثائرة: "لعلها نامت؟!" ويشهق أخي بدمعه: "لقد ماتت رقية يا عمة! ماتت فاطمة الصغرى يا بنت فاطمة، مرة أخرى، قد استشهدت فاطمة!".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قراءة آمال الفتلاوي:
يعتاد كتاب الروايات على الأسلوب الوصفي الدقيق لكل ما يختص بعتبات نصوصهم، أي يعتمدون على ارتكازات وصفية شمولية يعتمدون عليها في تقديم رواياتهم، وهذا ما نجده في نصوص الكاتبة المبدعة رجاء البيطار التي سعت إلى استخدام هذا الأسلوب (كونها روائية) والابتعاد عن أسلوب التلميح المختصر الذي تمتاز به النصوص الإبداعية الأخرى: كالنصوص النثرية ونصوص الخواطر، استخدام الأسلوب الروائي الذي يهتم بالتفصيلات، يعود إلى شعور الكاتبة بالحاجة إلى التعمق في الوصف والإحاطة بكل حيثيات النص، وحرصها على عدم اهمال أيّ جزئية فيه.
وفي نص (على ضفاف الكوثر) ثمة تنوع واضح المعالم فقد قدمت لنا المبدعة رجاء البيطار أسلوباً اعتمد على منافذ عدة منها:
اولاً- استخدام مرتكز تكثيف الصور الشعرية بشكل رائع مع رشاقة اللفظ والتركيبات الجملية التي جذبت المتلقي جذباً لا يُقاوم، وجعلته يحلق مع النص في أرقى حالاته: (على مشارف الفجر - طيف دفء يتناثر - سطوعا من ضياء... الخ).
ثانياً- اسلوب الخطاب المباشر مع الرمز المقدس اسلوب له أثره البالغ في الدخول إلى أعماق المتلقي الوجدانية وتعميق الصلة بينه وبين النص لدرجة الذوبان فيه: (أيّ وا أبتاه لقد آن الأوان).
ثالثاً- تعمدت الكاتبة أن تستثمر هدير العاطفة بإطار براءة الطفولة التي كانت مرتكزاً أساسياً في النص، وتعميق هذه العاطفة عبر أدواتها وبراعتها في استخدام هذه الأدوات.
رابعاً- استخدام اسلوب الدهشة كان له الأثر البالغ في تحفيز الحالة الوجدانية للمتلقي وجعلها تتصاعد بوتيرة متذبذبة، وكأن الكاتبة تعزف لحناً ترفع بها روحه وتهبط بها بكل دعة: (ها أنت تهبط من عليائك، هو ذا آذان الفجر، هو ذا مصلاك، هي ذي أنا).
خامساً- المباغتة من اكثر المرتكزات التي يعتمدها الكاتب المبدع؛ كونها تترك في النفس أثراً من الصعب إزالته، وقد يكون هذا المرتكز هو الأخ التوأم لمرتكز الدهشة إلا أنه يختلف عنه في قوة التأثير: (وفجأة يزعق في الوجود نعيق، واذا بصوت منكر، وإذا بجلف قادم).
هنا استطاعت الكاتبة جذب كل كيان المتلقي وجعلته طوع نصها.
سادساً- الوله الوجداني، استطاعت الكاتبة استملاك عاطفة المتلقي بسكب سيل الأحداث الوجدانية بطريقة المكابدات التي اوصلتها إلى قلب القارئ، وبينت مدى قدرتها على جعلنا نعاني هذه المكابدات، وكأننا كنا نكتب نصها معها في عسر ولادته، شكراً للكاتبة المبدعة رجاء على هذا النص المفعم بالجمال والإبداع والعاطفة التي سيرت القارئ معها فيه أينما حلت.

قراءة بشرى مهدي بديرة:
ما قرأناه اليوم ليس نصاً عادياً، ونحن في حضرة تلاقي المثقفة بالأديبة المبدعة في شخصية الكاتبة، كان نصاً غنياً بالانفعالات والطاقة الوجدانية المفعمة بالجماليات الفنية، قرأنا مجموعة علاقات جمعت بين وجدان الكاتبة وبين واقع موصوف فظهر تداخل العناصر الذاتية عبر لغة ادبية رصينة النص الذي قدمته يعتبر صورة مصغرة لاندماج عناصر داخل ذاتها بانفعالاتها، والعلاقات التي نميزها داخل النص يوجد ما يماثلها خارجه، فجاءت وصفاً لواقع ترك فيها أثراً كبيراً، الشيء الذي جعل منه مشهداً حاضراً في الوجدان منطلقاً إلى حيز الوجود متى استدعته.
ما يميز النص تلك اللغة الخاصة التي امتازت بالابتكار والدهشة لغة اندمجت في بنيتها بجملة من المؤثرات مما يجعل المتلقي يتلمس مواطن الإبداع في النص وان يصل إلى عمقه، جميل ست رجاء بورك نبض قلمك.

قراءة صدى الروضتين:
تمحورت الشعرية في نص رجاء بيطار بمنحيين: الأول شعرية الجملة (طيف دفء يتناثر- ناظراي الظامئان - يا شمس ايامي - مشارف الفجر - ضفاف الكوثر) ونجد أن قمة الوعي والادراك والتمكن في هذه الجملة وتطور امكانية استخدامها (ألقيت رحلي، جسداً يتلوى على ضفاف الذاكرة)، اشتغال شعري متقدم بجميع مستوياته.
أما المنحى الثاني: السجع الشعري لتقوية الجرس الموسيقي للغة استخدام حرف الروي (دماء نحرك في عناق - سألتك لا فراق - على درب اللحاق) أو لنقرأ (دمع شهقة النشيج المكتوم - تبلغ روحي الحلقوم)، أو نقرأ (عمي العباس ها قد جاء ليسقيني - هو ذا أبي قد جاء ليحميني)، نجدها مشحونة بالتفاصيل الساعية لرفع معنوية الوجداني: (فأهب نحوه كالصباح وكنسمة ذات جناح).
والسجع يمنح النص زخماً مصائبياً يحشد لنا التأثر الوجداني فترد عمتي كالحائرة وهي تكفكف بعض ما فاض من دموع ثائرة.
المنفذ الثاني التقابل البلاغي، ويعني أن هناك لغة تضادية تتآلف لإعطاء المضمون القصدي مثلاً (على ضفاف الكوثر = مكان حلمي بالمقابل خربة الشام) الأول تمثل به الحلم، والثاني تمثل به الواقع في جملة الخامس من صفر احدى وستين هجرية زمان واقعي بالتقابل هناك على مشارف الفجر زمان متخيل نتأمل في جملة (دفئ شعاعك) بالتضاد (يملأ صقيع روحي الدفء) مقابل الصقيع او لنتأمل جمعت اشتات تقابل بعثرني هواك.
منفذ أسلوبي آخر، اذا انتبهنا الى جمل المقدمة كانت كلها جملاً اخبارية تحول الاخبار بفعل مبدع الى فعل تخاطبي بعدما انجز الاخبار مهمته ننتبه (هي شمسك تشرق - تهبط من عليائك) نتأمل في مفردات (نورك - سمائك - يا شمس ايامي - ابتاه) ومعه تسير الأنا المتممة الراوية للأحداث.
المنفذ الاسلوبي الاخر هو الاستفهام: يعبر الاستفهام عند رجاء بيطار عن ضراوة الحالة النفسية وترسيخ الواقع في ذهنية المتلقي: (أين البقيــة؟ أين اليدان؟ اين الفؤاد؟) مناطق تأثيرية اخرى كالرؤى السردية او غيرها من مناطق الاشتغال.