صفحة من يوميات كاتب في زمن الحجر
29-05-2020
طارق الغانمي
مع توهج صباح يوم شتوي زمهرير، تناولت جوالي المحمول، وأخذت كرسياً وضعته أمام نافذة غرفتي المطلة على حديقة المنزل، بدأت أرتشف الشاي وأتصفح أخبار العالم، للوهلة الأولى شاهدت صوراً مروعة من الصين لأشخاص ارتسمت على وجوههم علامات الفزع والاضطراب، يتساقطون في شوارع مدينة ووهان، ثم رأيت أفراداً يفترشون الأرض في محطات النقل (المترو) وسط إيران بعد فقدان وعيهم.
أما في روما ليس كل الطرق تؤدي إليها، بل عُبِدت الطرق بأجساد متراكمة، وأكثر ما هزني فيها شاهدت رتلاً طويلاً من العربات العسكرية تجوب الشوارع بعد منتصف الليل وتنقل توابيت الموتى في مدافن بلدة (برغامو) شمالي إيطاليا ينتظرون الدخول إلى فرن حرق الجثث، وقفتُ بدهشة عظيمة أمام هذا الخبر!! حياة بأكملها فُقدت على حين غفلة، إذ أصبح فرن حرق الجثث يعمل 24 ساعة كما ذكرت صحيفة كورييري ديلا سيرا، الذين يموتون اليوم تُحْرَق أجسادهم بعد خمسة أيام لعدم القدرة على الاستيعاب!!
وللأسف شاهدت في لندن اكتظاظاً على الأسواق، والمثير بالأمر هو خلو رفوف بعض المتاجر من السلع والبضائع نتيجة إقبال الناس على المحال والمخازن الكبيرة بقصد التخزين خوفاً من الكارثة.
وأما المدينة التي لا تنام ولا تهدأ (نيويورك) فلا شيء يُقارن بها بهذه الكارثة، اصبحت مدينة أشباح وسط مبانيها الضخمة وقلاعها التاريخية ذات الطراز المعماري العالمي، شاهدت مقطعاً مصوراً من أمام مستشفى بروكلين وهو في حالة انهيار من هول المنظر، إذ إحدى رافعات نقل البضائع تحمل الجثث وتضعها في شاحنة كبيرة.
يا للصدمة، السلطات المحلية تتخذ قرارات مأسوية حول إزالة أجهزة التنفس الصناعي عن المرضى ذوي الحالات الميؤوس منها من أجل إفساح مجال لشخص آخر لديه فرص عيش أفضل.
فهذه أوروبا أغلقت فيها كل الحدائق والمحميات وملاعب كرة القدم والمتاحف والمسارح والمكتبات والمدارس، وهجرت الساحات العامة التي كانت تزدحم بالسياح، وخلت المطاعم والمقاهي من روادها.
أغلقت المدن بالكامل بعد أن كانت مزدحمة ومليئة بالحياة، صارت غير مأهولة، صور لم نرها حتى في الخيال، مطارات مغلقة، تحولت مدارجها إلى أماكن مزدحمة بالطائرات المركونة، طواقم بلا عمل، وخسائر بالمليارات، وشلل تام في قطاع الاقتصاد العالمي.
صدعني رأسي كثيراً ممّا رأيت، أردت أن أخلق جوّاً عاماً لعالم موازٍ يجمع ما حدث، وبينما أقوم في مخيلتي بتصوير انطباعٍ عن مدن ستفرغ من سكانها، إنه عالمٌ غريبٌ كيف ستبدو الحياة؟ يا له من مظهر كئيب، ماذا حدث؟!
أين ذهبت العلوم والتكنولوجيا والتسابق الحضاري؟ أين تلك الحضارات التي تدعي النهضة القديرة؟ هل من المعقول أن تقف متفرجة حيال كائن لا يرى بالعين المجردة، أين كفاحهم، وصراعاتهم؟! والغريب في الأمر الاستسلام العلني بانتهاء حلول الأرض والأمر متروك للسماء.
من يتوقع في لحظة ما، تحول العالم من قرية كبيرة إلى بيوتات مغلقة؛ بسبب جائحة فايروسية غامضة حولت حياة البشرية إلى الكثير من الفزع والهلع ومنع التجوال والحجر المنزلي، وغلاء في الاسعار واقتصاد مهزوم.
ولأنني أعيش بخيالي الواسع أكثر ممّا أعيش بواقع الحياة الضيق، فإن فترة الحجر المنزلي التي أنا عليها؛ بسبب كورونا فتحت لي أبواباً ومتسعاً من الخيال أكثر فأكثر، ولولا الخيال لما استطعنا مُجاراة مرارة الواقع..!
اللحظة التي استيقظت من نومي ورأيت العالم بشكل مختلف كرجل يراقب بحزن وجوه السائلين اسئلة وخوف، فجأة دفعتنا الحياة إلى مشكلات وصراعات أصبحت تافهة في النظر هذه الأيام، بدا علينا الندم والألم والخجل، شعرت بالشفقة على الحال.
حياة أخرى غير معتاد عليها، خشنة وقاسية، حبس مؤقت وعزل وقائي، قلق واضطراب، فيروس لا تراه العين المجردة جعل الشوارع فارغة والعصافير تترك أغصان الأشجار، جعل العالم يعيش في هدوء، لن تذهب إلى المكان الذي تعمل فيه أو تتنفس الحياة به، نعم كيف لي أن أبدأ يومي هذا؟! بعد أن كنت أبدأ العمل فيه بوقت مبكر، والنهار طويل في هذه الأيام.
الحياة في هذه الغرفة لم تعد تطاق، عليّ البحث عن بصيص أمل لعله يكون هو الحل المنطقي للخروج من هذه الحالة، سأكتب وأدون الكارثة بقدر انزعاجي منها، سأكتب الأيام التي تنقضي في هذا الحظر، بقدر الوقت الذي يتسرب بخوفي من كورونا، حتى الأكل والنوم والاستحمام أصبحت معوقات أنجزها بصعوبة، لن أفعل أمراً خارقاً، أردد نشيد الله فقط، الابتهال والتضرع لإنقاذ العالم ممّا فيه، لا بأس سأشتاق لعملي وسط مدينتي الصغيرة، هذا ما أستطع فعله، فماذا كانت تريد هذه الغربة القسرية أن أفعل غير ذلك؟!.