اللـقـــاء بـابـــن كــــار
17-05-2020
اللجنة الاجتماعية
مقهى ضاجة بالحياة، روادها بين (معميل) وعابر راحة ومدمن شاي ونرجيلة شرائح اجتماعية مختلفة، تستطيع ان تكشف هويتهم من خلال احاديثهم وحواراتهم، كنا مجموعة نتحدث عن هوية الكتابة والقراءة والشعر والشعراء, ظهر الرجل الارستقراطي قبل مدة في حياة المقهى رجل كبير السن عليه ملامح الهمة والجد يقوده السائق الى حيث جلوسه، يحجز له المكان ويرتب له طلباته ويشرف على تحضير نرجيلته ويذهب ولا يعود إلا بموعد يحدده له الرجل الارستقراطي.
كانت المقهى الكبيرة عبارة عن سوق كل لحظة يدخل باعة متجولون بـ(جنابرهم) ويعرضون بضاعتهم ويدخل المتسولون باختلاف اعذارهم ومظاهرهم ربما لفضول الصحافة نبوءات تقرب مساحات التوقع، او ربما تمتلك حرفة الاعلام فراسة خاصة بأهل الكتابة، تجرأ أحد المتسولين ليكسر حاجز الرهبة، ويعرض حاجته للرجل الثري، فجأة طوى الرجل خرطوم النرجيلة على جنب وتقرب الى المتسول ليهمس في اذنه بعدما همس المتسول، ويبدو انه يجيب عن سؤال يخص مكونه المهني للتسول، وبعدها ابتسم الرجل الثري ومدّ يده الى جيبه ليخرج له ورقة نقدية بعشرة آلاف دينار، وبعدها دار اللغط الإعلامي حول توقعات السؤال، وتوقعات الجواب مع معرفة سر الابتسامة وبعد كل التحليلات المتكررة كل يوم وعلى مسمع منه تكرر المشهد يوماً مع متسول اخر وتكررت تفاصيل المشهد.
ترك خرطوم النرجيلة جانباً وسأله هامساً في اذنه وجاء الرد في همسة المتسول التي اغضبت الرجل الثري فردّ عليه بعنف واستهجان وطرده من المقهى، عجيب أمر هذا السؤال، وبعدما هدأ الرجل واذا به يبتسم لي وكأنه يقول لي: لقد فهمت معنى الحيرة لديك، ولهذا تجرأت وتقربت اليه اصابتني رهبة من الخوف مع وجود الابتسامة سألني: أنت اعلامي؟ قلت: نعم، وقال: اذا اردت يوما ان تكتب بحثا عن التسول فابتعد عن مكرورات التعبير، وابتعد عن دراسة الظاهرة من فوق، انت بحاجة حقيقية للتحاور مع متسول، اما حيرتك من السؤال الهامس في اذن المتسولين فهو: كم صار لك في هذه المهنة؟ فالأول قال: سنة، ورأيت من واجبي أن أعينه، فهو في بداية تكوين مشروعه، اما الذي طردته فكان قد مارس المهنة لمدة 15 سنة وما زال متسولاً، واكمل ليقول: انا مارست الگدية لمدة خمس سنوات فقط، وحصلت على ثراء محسود ومكانة مهيبة تجارة وبيت كبير وسيارة وسائق ولم أمارس المهنة سوى خمس سنوات، وحصلت على ما اريد.
قلت: اذن لأتحاور مع متسول، فضحك وقال: دع جانبا عباراتكم الخشنة، ودعني انا احدثك، فقال: ان ظاهرة التسول ظاهرة ليست محلية، وانما هي ظاهرة عالمية لها محوران مهمان قلت نعم وانا اقرب آلة التسجيل اليه: في المحور الأول سببه الفقر الشديد وانتشار البطالة وتقاعس السلطات الأمنية عن دورها في الحد من ظاهرة التسول خاصة الذين امتهنوا مهنة الگدية.
وسبب انتشار الظاهرة هو سهولة الحصول على المال وعدم وجود مؤسسات اجتماعية تساعد الفقراء والمحتاجين. قلت: طيب والمحور الثاني؟ ضحك حينها وقال: هناك تسول مباشر (گدية) وهناك تسول مقنّع مثلاً يفترش الأرض يبيع حاجيات بسيطة كالمناديل الورقية، حبوب حنطة للطيور، مسح زجاج السيارات.
وهناك تسول اجباري كإجبار الأطفال على التسول، وتسول اختياري رغبة في كسب المال فقط، وهناك تسول موسمي أيام الزيارات والاعياد وشهر رمضان فقط وتسول عارض لحاجة طارئة، وهناك تسول القادر، وتسول العاجز، وتسول الجامح ليصاحب الگدية بالسرقة.
ويستخدم المتسولون اشكالاً مختلفة، ويتفننون باظهار الحاجة عبر البكاء مدعيا انه عابر سبيل وفقد ماله او انتحال بعض الامراض والعاهات وطلب التبرعات لمشروع كادعاء الخلل العقلي واصطحاب الأطفال لكشب عواطف الرحمة وحمل وثائق رسمية غير حقيقية.
قلت اسأله: وما أسباب التسول الحقيقية؟ فأجابني: انتشار الفقر وازدياد نسب البطالة وضعف التوكل على الله والثقة برزقه وتفضيل المتسول للراحة والكسل وتراجع الدور الاجتماعي وغياب الشعور بالعدالة الاجتماعية وتشجيع بعض الناس لهم؛ بسبب الرأفة والشفقة.
قلت مع نفسي: لأسأل الرجل الخبرة عن رأيه في المعالجة الحقيقية؟ فقال: أولا ظاهرة التسول تزيد احتمال الجريمة في المجتمع، واجراء دراسات اجتماعية لمعرفة الحد من هذه التجربة، وتوعية المجتمع لنشر برامج نوعية حول آثار التسول واخطاره، ودعم رواتب كبار السن والمرضى والفقراء بتشجيع قيم التكافل، وتفعيل دور الشرطة. قلت: هل تعلم أن الموضوع أصبح مذهلاً، ترك خرطوم النرجيلة جانباً، وقام لينصرف وهو يقول: التقيت بابن كار.