عالم الملكوت

06-04-2020
منتهى محسن محمد
_ هل أنا في الحياة، أم في حدود الخيال، أم انتقلت الى عوالم أخرى؟
يظل السؤال يجوب في خارطة رأسي، وأنا أبصر ما لم ترّ عين، ولم تسمع أذن من قبل، أتأرجح بين الحقيقة والسراب، وأتنقل في محطات لم تكن بالحساب، وغشاوة تحط على عيني كل حين، وبالرغم من الفزع الذي يحتويني اثر ذلك الانتقال السريع، إلا أن فيضاً من الطمأنينة يتملكني ويلفني بسعادة لا أعرف مصدرها أو سرها.
فجأة يجيئني صوتها صارخاً، ويعيدني الى أماكن مألوفة، لكنها أصبحت الآن بعيدة المنال، صوتها يناديني، فتتشظى روحي بين خافقي، يصلني شوقها على طبق من المشاعر المتأججة، فتحرقني دموعها الغزيرة.
أهبط بسرعة فائقة لا يفقهها عقل بشر قربها وأحوم حولها وأرفرف بجناحين، أرى دماء في رواق الدار قد أحاطوها بشموع متقدة دون انطفاء، وتجمع كبير لكل الأهل والأحباب، لا اكترث بأي شيء سواها، تمزقني دموعها فأتعذب لزفراتها وأنينها ونوحها المكتوم .
أحدثها اقترب منها كثيرا بين اللغط الكبير، اقول لها: لا تبتئسي انا في أحسن حال بل أنا في أوج السعادة والرخاء.. أنا في النعيم الموعود يا أمي .
لا تسمعني وقد انهارت على بلاط الأرض وسرعان ما يحملونها الى الداخل مغشيا عليها، وأشعر بالتلاشي حينها، وأن أوصال روحي تتمزق لأذاها وشدة حزنها وآلامها.
لا أعرف سر اختلاف الصور والاماكن بهذه السرعة الفائقة، حتى تشرق عيناي على دار كبيرة واسعة بهية تتدلى منها الأزهار، وتتصدرها المروج الخضراء، يشير لي احدهم بالمسير فيها فأسرعت الخطى، وتنفرج أمامي الأبواب وكل باب تحته آيات من الجمال التي لا يوصف حسنها وبهاؤها الأخاذ.
في مكاني الجديد هذا أنهار من لبن ورمان، وثمار لم أرَ حسنها، وفتاة كأنها لؤلؤ مكنون تجلس على كرسي من نور تتصدر كأجمل عروس في حلة مرصعة بالجواهر النفيسة التي لا تخطر على بال، وتتكئ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ.
تشعّ وتشرق من بعيد وكان كل ما حولها يشع من نورها بياضا ثلجيا، ويهمس لي احدهم مبتسما، اشعر اثر ذلك بأن هذه الحسناء معدة لي، وسرعان ما تسرب شعوري ليسترجع خطيبتي التي كنت قد وعدتها بالزواج بعد اشهر قليلة ولولا سفرتي المباغتة لكانت الان من نصيبي، وكم اتمنى ان تأخذ نصيبها من الحياة بعدي وان تسعد من دوني.
كان يوم الجمعة الماضي يوما ليس ككل الأيام بلى؛ كان مميزا بكل تفاصيله، فبعد ان أتممت صلاة الجمعة في مرقد الإمام الحسن العسكري A وهممت بالذهاب الى مهمة مستعجلة، لم أنسَ أن اهاتفها كعادتي كل ساعتين من عمر الزمن .
- هل انتِ بخير امي؟
- نعم يا ولدي الحبيب انا بخير.. الحمد لله.
- أمي بالله عليك اهتمي بنفسك.
- يا قرة العين لا شيء تخافه عليّ فأنا هنا بأمان، أنتَ من يخاف عليك فكن على حذر يا حبيبي .
- أمي هل انتِ راضية عني؟
- نعم أنا راضية عنك يا مهجة القلب.
- أتمنى ان أقبِّلَكِ يا أمي الساعة من رأسك حتى أخمص قدميك، أنت أمّ رائعة.. وصديقة مخلصة.. وحبيبة أزلية .
- وأنت يا فلذة كبدي ابني الوحيد وسر سعادتي في الكون، حفظك الله بني سأنتظرك بعد غد عند انتهاء مهمتك، أليس الصبح بقريب؟
- حسنا أمي عليّ المغادرة الآن، سأذهب بمهمة اني مستعجل جدا، سأتصل بك لاحقا.
- في أمان الله وحفظه ورعايته بني.
ان لداري المرتفعة غرفاً مشرعة ومنيرة لا يعرف من أين يبدأ نورها والى أين ينتهي، وقد ألبسوني كسوة مخملية باهرة الجمال، وابتدرني بعضهم يرش ريحا طيبة معتقة بالعبق والريحان، ويتركوني اسرح في تلك المعمورة كيفما أشاء ومتى ما أشاء، والجميع يبتسم نحوي ويرمقني بنظرات التوقير والإجلال .
- زين... أين أنت بني؟
- أنا هنا أمي حاضر للخروج مع أجمل الأمهات.
- سأشتري لك اليوم بدلة زفافك من افخر المحلات وسأختار كعهدي رباط عنقك.
- اعلم ذوقك الرائع حبيبتي لكن ألا ترين بأننا نستعجل في هذا الأمر قليلاً؟
- إني أجهز كل الأشياء لنكون في موعد إجازتك القادمة قد انهينا كل المتعلقات ولم يبقَ لقرة عيني إلا الزفاف وتمام الفرحة .
انا أول الوافدين بهذا المكان البهيج وسرعان ما تتهافت نحوي جموع كثيرة كل منهم يرحب بي للانضمام والالتحاق به، وجوههم نورانية لا يكاد يلحظ رسومهم كأنهم كائنات ملكوتية.
وأنا في حيرتي ودهشتي أقف مبهوراً بما يدور وأتسمّر فرحاً وسروراً، أتلفت فأرى منتهى الجمال، وذروة الحسن، وقمة اللطف، فتحتار عيناي وهي تلتقط في مداراتها لقطات هذه الحياة الزاهية المليئة بالصور الفريدة من نعيم وعيون وسُرُر وَأَكْوَاب وَنَمَارِق وَزَرَابِيّ.
بعدما أهالوا التراب شعرت بأنفاس أمي ودموعها الحارة تنساب كالمطر في المرزاب، وكم اتمنى لو كان بالإمكان إخبارها بمقدار ارتياحي وسعادتي وشعوري بالخفة وكأن أدران العالم اجمع رفعت عن صدري ساعتها، ليس هذا فحسب؛ بل أودّ اخبارها أيضاً بأنهم ألبسوني كسوة الإيمان، فلا شيء بعد من عذابات الدنيا ينالني البتة.
في تلك العوالم يقيدون البعض من مغادرة المكان إلا بأمر، أما انا ومن مثلي بالمرتبة فإننا ننزل ونحوم في الإرجاء دون تقييد كرامة لنا وجزاء.
في إحدى المرات ارهف سمعي وهي على مصلاها تبكي وتدعو بوجع ولهفة وقد أهالتها لحظة سقوطي على الأرض وصعب عليها استشعاري بألم الموت، فياليت امي الحبيبة تعلم كم من الكرامات أعدت لي اثر ذلك السقوط، وان كل الفخر تمثل في سقوطي على الشهادة واحتضان الأرض، فهل في هذا مقارنة بين متع الدنيا ونعيم الآخرة؟!
أما خوفها المحموم عن حال ألمي حين إصابتي ودموعها المنصبة عن تلك اللحظة الصعبة، فانه سينفد حتما اذا علمت بأن ما تحسبه ألماً لا يساوي سوى مس قرصة لا غير.
روحي الهائمة حولها والتي تأبى تركها تحدثها دوما بحالي ومستقري الجديد فأنا بحمد الله في روح وريحان وفي أحسن حال، وترجوها الكف عن الندب والبكاء وان تهوّن على نفسها مصاب الفراق، وان تحيا براحة وأمان وهناء، والا أكون السبب في إفساد باقي سني عمرها بدوام الحزن والبكاء، فان ذلك اشد ما يؤسفني ويؤرقني الحين.
ولطالما عاهدتها وسأظل على عهدي في زيارتي لها في عالم الرؤيا، بعد ان تذوقت النعيم في أحسن الدرجات، وهكذا تتواصل رسائل الحب بيننا ملفوفة بطلب الرجاء لعلها تستجيب لي او تفرغ من كم الأحزان التي باتت تكدر عليَ الأجواء، وآخرها تحدث قلبي لها وهو يقول: افرحي اماه واخلعي السواد، فلولدك "زين العابدين" مرتبة عظيمة أُشفع بها للمؤمنين وأنتِ الأولى بالشفاعة يا رفيقة الروح وبلسم الحياة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قصة الشهيد السعيد زين العابدين طارق العبيدي .