الضفة الأخرى
14-03-2020
ندى منخي النهار
كانت العَبّارة تقف على ضفةِ النهر، وهي مُتزينة بأجمل الحلي ومزخرفة بخطوطٍ بديعة وتشع ضياء ونورا .
إن منظرها يبعث في النفس السعادة والأمل، ويُغري كل ناظر لها بطمع الركوب فيها، والتمتع بنسائم الهواء الهادئة، وتموجات النهر المطردة، وما إن نادت العبّارة مُعلنة قُرب موعد الإبحار حتى تَهافت الناس وبكل أصنافهم صغاراً وكباراً نساءً ورجالاً، وجميعهم يَحلمون بلحظاتٍ هانئةٍ على متنها، أقبلوا عليها قائلين :
أن أفيضي علينا أيتها العبّارة من جمالك وبهائك ورفاهك، فنحن المحرومون جِئناك علّك تَنتشِلينا من مدينتنا المدمرة والمهملة .
فأجابتهم بدلالٍ وهي تُمعن بهم تشويقا :
هيا - هيا فلتعجلوا، اركبوا ولن تندموا، إني أريد بكم خيرًا ولو تعلمون ما أخَبئه لكم في الضفةِ الأخرى من النهر، إنها الجنة أمامكم ألا ترون؟!
فبدأ الناس بالتسابق كُلاًّ يرغب باللحاق بها، وأخذت العبّارة بإطلاق الأبواق مُحذرةً من انتهاء الوقت، فازداد الناس اندفاعاً وتدافعاً خشيةَ تفويت فرصةِ الوصول للضفة الأخرى وما زالتْ تناديهم: إنني أسع الجميع لا تتوقفوا .
فتزاحموا واصطكوا جسداً بجسد، وعقلاً بعقل، أعدادهم هائلة، وآمالهم عالية.
ضحكت العبّارة وبدأت بالميلان يميناً وشمالاً، ازدادت انحناءً وهي تصرخ بهم :
هل من مزيد؟ هل من مزيد؟
فأجابوها :
نعم، يوجد المزيد، ولكنك تَميلين ونخشى الغرق .
قالت وهي تُغريهم أكثر :
إنني أتمايل وأرقص فرحاً بمجيئكم .
وبهذه الأثناء، قُطعت أسلاكها وجَرفتها الموجات بعيداً وغطس طرفها بالماء، فانْتاب الناس الهلع، فاتجهوا للجانب الآخر من العبّارة، وأخذ بالارتفاع أيضاً، وهو على وشك الانقلاب بهم، حاولوا التشبث بما يصل لأيديهم فلا ينفعهم، فتعالت صيحاتهم وملئت كل زوايا الكون بصرخات الأطفال وبكائهم، وَوبّخ الآباء العبّارة، والحسرة تَنهش بأفئدتهم قائلين:
إننا نغرق أين وعودك الجميلة؟! لماذا لمْ تتركي أطفالنا على اليابسة وَتَأخذينا نحن فقط، ما ذنبهم؟!
فأجابتهم العبّارة، وقد تَبدّل حالها وبانَتْ حقيقتها، وظهر باطنها الشيطاني جَلياً للعيان، فَبَدا وجهها مسوداً قبيحاً، وملمسها شائكاً، وغطّتها الدماء من كل جانب:
ذنبهم أنكم آباؤهم، وأنكم تَتَّبعون كل ناعق، ناديتكم فأطعتموني، وهل ظننتم حقاً أن من صنعوني يريدون مني أن أفرحكم وأدخل السرور لقلوب أبنائكم؟! إنكم تخدعون للمرة الألف .
وأخذت العبّارة تتفاخر بفعلتها الشنيعة قائلة:
أنا العبّارة الماكرة أُعلن الآن أني جَعلت عالي نفسي سافلها، وأني أُغرقكم وقد نَفّذت مهمتي بنجاح، ولن تفلحوا بمعاقبتي بل سَتُرمّموني وتعيدوني للعمل مرة أخرى.
ألا تعلمون أنكم تموتون ليعيش أولئك !!