رواية عن الفتوى المقدسة..وكنت معهم
31-01-2020
علي حسين الخباز
رسالة الكنيسة:
نقلنا رسالة الكنيسة الى مكتب سماحة السيد كما وصلت وحسب الاتصال الهاتفي بتاريخ 21/7/2015م طلبوا وقفة المرجعية، وبيّنوا انا نطمع بوقوف المرجعية الشريفة معنا بهذا الظرف؛ لأن حر الصيف قد أضرّ بأتباع كنيستنا الابرشية، ونحتاج مساعدتكم كما عهدناكم كان الاتصال من البابا بولص متي.
تحضيرات السفر بعد موافقة مكتب سماحة السيد لنصل الى مطار اربيل صبيحة 4/ 8/ 2015م لنكمل اجراءات الاقامة في مطار اربيل الدولي، ونبتدئ العمل في نفس اليوم بعد أن وصلنا لمقر الاقامة، كانت لنا زيارة الى مكتب كهنة كنيسة ام النور في اربيل الذين رحبوا بنا فقال البابا بولص: (نرحب بكم وانتم تشاركوننا معاناتنا، وتحملتم عناء السفر، واليوم الذكرى السنوية لتهجيرنا، حيث خرجنا من بيوتنا يوم 4/8/2015م والشكر موصول للمرجعية؛ لأن مجرد التفكير بمعاناتنا شيء كبير).
قلنا:ـ (نثمن هذا الترحيب منكم، رغم انا لا ننتظر كلمات الشكر، اوفدنا مكتب السيد سماحة المرجع لنكون بين اهلنا الذين لهم حق بهذا البلد كما عليهم واجبات، وان الاديان السماوية هي اديان رحمة وتسامح، مجيئنا اليوم هو خاص للإخوة المسيحيين حصرا رغم الازمة المالية التي يمر بها البلد عموماً، لكن هذا لا يمنع من التواصل).
دار الحديث عن الاحتياجات التي يمكن أن نقدمها وعن عدد المسيحيين النازحين عندهم، بيّن الأب بولص أن المسيحيين الارثوذكس تابعون الى الكنيسة الابرشية في دير مارمتي وهناك 2500عائلة مسجلة لديهم من الممكن أن نحصل لهم على حصص غذائية، إلا أن الصعوبة في تحصيل المبردات في هذا الجو الحار.
استعرضنا دور المرجعية في اغاثة النازحين، وبيان اسباب هذه الزيارة، وشبيهاتها هو مد جسور التواصل بين العراقيين والوقوف على احتياجاتهم، وجرى الاتفاق ان تكون هناك زيارة الى دير مارمتي الذي تقع في سهل نينوى.
في صبيحة اليوم الثاني، كانت لنا جولة في اسواق اربيل بعد أن اتفقنا على نوع المساعدات التي ستقدم وهي المبردات وحليب الاطفال وسلة صحية كانت جولة ميدانية تم من خلالها شراء المبردات والمواد التي ستجهز، نقلت المواد الى كنيسة ام النور.
كانت الكنيسة لها قاعدة بيانات دقيقة أبلغت الناس الذين تجمعوا، بيّنا لهم أن المرجعية في النجف الاشرف تشعر بمعاناتكم وتدعو لكم بأن تنتهي هذه الأزمة وتكون لكم اليد الطولى في تحرير ارضكم.
اصطف الناس بطابور منتظم، كل بيده دفتر مساعدات ممنوح من الكنيسة وجلست لجنة من المتطوعين على كراسي للتدقيق يختم الدفتر وتكتب نوع المساعدات؛ لكي لا يحصل تكرار.
هذا نازح اسمه صباح مدي نزح من برطلة، يقول: (انا متقاعد ومضت سنة منذ تركنا ديارنا نشكو غلاء الاسعار وارتفاع الاجارات وعدم وجود عمل، كان عندي كم فلس صرفتها حتى ذهب زوجتي بعناه، وتصرفنا بفلوسه الحياة صعبة جدا واشكر سماحة السيد السيستاني لإرساله هذه المساعدات خصوصا انا محتاج المبردة بهذا الجو الحار، وأتمنى أن نرجع مثل ما كنا نتزاور بيننا ونرجع لديارنا).
مسيحي آخر بعمر الخمسين يقول: معاناتنا معاناة كل العراقيين وانتم اليوم بهذه الالتفاتة الكريمة من المرجعية التي تشعرنا أن هناك ناساً لها منظور انساني يشعرون بنا، فتكلم البابا بولص متي عبد الكريم كاهن كنيسة مارتش في بعشيقة (التي هجروا منها) باسمي وباسم المطران موسى وباسم الكهنة في اربيل نتقدم بالشكر الى الله اولا الذي جمعنا في هذا اليوم، والشكر موصول لسماحة السيد السيستاني المرجع الاعلى واعضاء مكتبه الذين تجشموا عناء السفر وكلمة الشكر لا تكفي فنقول: ادامك الله ايها السيد للعراقيين؛ لأنك أب لهم، وهذه المرة الثانية تأتون الى هنا محملين بالمواد الغذائية والمبردات وهذا فضل لن ننساه.
في اليوم الثاني، كان موعدنا للذهاب الى دير مارمتي الذي يقع في شمال مدينة الموصل، قطعت السيارات ذلك الطريق الطويل الذي يمتاز بتعرجه وصعوده الجبل تارة واخرى هبوط الوادي ولنمتع الابصار بجمال الطبيعة الخلاب ونرى تقلب لون الجبال بين الحين والاخر حتى وصلنا الى مناطق قد هجرها اهلها لقرب داعش منهم ونقطع مدن (برطلة، وبحزاني، وبعشيقة) التي عاش بها المسلمون والمسيحيون والايزيديون متجاورين متحابين مئات السنين، ولما هجروا هجروا جميعاً (وهذا ما اشار اليه احد الكهنة وقال: مما هون الخطب انا هجرنا جميعاً دون استثناء).
الطريق من بعشيقة الى الدير كان على جنبيه حقول يبدو انها ميتة لا روح فيها لهجران اهلها هذا المكان لاح لنا من بعيد جبل، قال دليلنا: هذا جبل مقلوب الذي فيه الدير وسُمّي جبل مقلوب؛ لأنه الجبل الوحيد الذي يختلف بطبيعته عن باقي الجبال حيث تتجه صخوره على عكس صخور الجبال الاخرى، ولهذا سُمّي مقلوب من الصعوبة ان ترى الدير وابنيته الراسخة فوق قمة الجبل، لكن مع اقترابنا منه بان الدير واضحا وهو يتوسط قلب الجبل عند اسفل قمته، وكأنه يشكل بمظهره الخارجي تاجا يعتلي قمة الجبل، كان منظراً خلاباً جميلاً لنعتلي الجبل عبر الطريق العام بسياراتنا التي تتمايل يميناً وشمالاً مع انعطافات الطريق لنجد انفسنا عند قمته وعلى احد ابنية الدير وبانتظارنا راهب ذو شيبة وابتسامة لم تفارق وجهه، كان هادئا عرف نفسه المطران موسى بلحد الشماني رئيس الاسقفية الابرشية ومعه عدد من الرهبان، رحب بنا كثيرا وقال: (اشكركم واشكر سماحة السيد السيستاني الذي ارسلكم وهذه الزيارة لهذا الدير نعتبرها تاريخية تدل على المحبة والاحساس بالآخرين وهذا ما اوصانا به السيد المسيح انتم جئتم من النجف الاشرف على بعد المسافة ومخاطر الطريق تركتم عوائلكم ومسؤولياتكم وتحملتم عناء الطريق ومخاطره رغم اختلاف الديانات.
نحن عاجزون عن تقديم الشكر لما قدمتموه للمسيحيين ولعموم النازحين وانقلوا تحياتنا للمرجعية في النجف الاشرف خصوصا لسماحة السيد السيستاني، شيء اكيد انه رجل حكيم يفكر بالآخرين السيد السيستاني رجل مبارك (حسب اصطلاحاتنا الكنيسية)؛ لأنه انسان يفكر بخير العراق دون تمييز بين هذا وذاك سواء كان سنيا او شيعيا او مسيحيا او كرديا لا يفرق بين العراقيين.
نحن ننقل لجناب البطريك كل ما يمر بنا وننقل له اخبار اصحاب الضمائر الحية امثالكم حيث جئتم من النجف الاشرف لتقدموا الهدايا بقلب طيب انتم مثل حي نقلتم حكمة هذا الرجل العظيم السيد السيستاني).
الأب يوسف فهمي راهب في الدير والقائم على ادارة شؤونه قال: (من بداية الأحداث وصدور الفتوى من سماحة السيد السيستاني استقبلنا الموضوع بترحيب كبير، ونعتقد أن الفتوى هي التي منعت بغداد من السقوط، وباقي المدن؛ لأن للسيد السيستاني مكانته في قلوب العراقيين وليس عند المذهب الشيعي فقط؛ لأن العراقيين التمسوا الحكمة في قراراته، نحن نعتبره صمام امان للعراق، وكثير من المنازعات والمهاترات السياسية والعسكرية انتهت بحلول بسيطة منه، لقد انقذ العراق من حافة الهاوية).
كانت لنا جولة في الدير حيث خرجنا الى سطحه المطل على القرى والمهيمن عليها وعلى السهل بأجمعه، فصارت تلك القرى تحتنا بمئات الأمتار، وعرفنا طريقاً منحوتاً في الجبل الذي يصل الى الدير طوله قرابة الكيلو متر مرصوف بالحجارة قالوا: انه الطبكي والذي يعني المرتقى يسلكه الاهالي والرهبان سيرا على الأقدام، وصولاً الى الدير دخلنا الى مقبرة الرهبان حيث قبور الاساقفة الذين تولوا رئاسة الدير منذ بنائه بأمر الملك سنحاريب سنة 361 للميلاد اي قبل 1600 سنة من الآن كانت منحوتة في مغارة منه تبتدئ بالشيخ متي وهو اول من تولى رئاسة الدير، هناك مغارات صغيرة بحجم الانسان قالوا عنها: انها مخابئ سرية للرهبان حين حصول المخاطر والاعتداء.
دخلنا الكنيسة كانت خالية من الناس لنقف على نسخة قديمة من الانجيل كتبت بالسريانية، دقّ ناقوس الكنيسة ليعلن للناس عن الصلاة التي لم يحضر لها احد من القرى المسيحية المحيطة، فقد هجرها اهلها خوفا من بطش داعش.