( ربتني شهيداً )ج1

20-12-2019
د.سوزان زين
سلسلة القصص المشاركة في مسابقة القصة القصيرة
المقامة ضمن فعاليّات مهرجان فتوى الدفاع المقدّسة الثقافيّ الرابع
تحت شعار: (أنتم فخرنا ومن نباهي بهم سائر الأمم)
ككل بنات الأرياف التي تغدو للغيطان تحمل منجلاً بيدها مؤتزرة بازارها، ومع كل قبضة سنبلة تمنح نفسها ذلك الحلم الأسري، وهي في طور البنات الآتي على أعتاب الزواج..
في تلك القرية الطينية من ضمن قرى كثيرة متناثرة تعتاش على الزراعة والمواشي، وجديد كل صباح ومع زقزقة الطيور والعصافير في الشجر الكثيف حول البيوت الطينية وسقفها القصب وما يسمى بالبارية وهي عبارة عن أعواد القصب تصف على شكل بساط فوق البيت، توقظ أصواتها الهادرة القرية على لحن ذلك العصفور النشط، والبلبل الشدي معلناً يوماً جديداً تذهب به القرية إلى اعمالها المعتادة.
تلك القرية التي لها أعراف جميلة ورائعة وأخلاق قلما تجدها في زماننا، رغم الحالة الفقيرة ورغم بيوت القصب والفطرة إلا أنهم يعيشون السعادة بكل إحساسهم، وروح التعاون والإخاء بينهم شيء لا نظير له، ومن عاداتهم أن كل يوم يقوم شخص من بيوت القرية بأخذ كل ماشية القرية يرعى بها في الأماكن المخصصة للرعي، ويؤدي كامل الخدمة والرعاية، ومن عادات القرية أنه إذا أراد احد البيوت يخطب امرأة لابنه فما أن تعلم القرية بذلك، يقومون بزيارته كل ليلة يقدمون التهاني ويفرحون ويمرحون من قلوبهم وكل واحد منهم كأنه هو صاحب العرس أو الخطوبة، ومن عادات القرية في النوائب إذا توفي شخص كل القرية نساء ورجال يحزنون بل والقرى المجاورة، ولو كان هناك موعد زواج يعطل ويغلق التلفاز وتوضع عليه قطعة قماش سوداء علماً أن أهل الميت لا يعلمون بذلك؛ لأنها سجايا القرية وطبائع أهلها الطيبين.
من تلك الشمائل والقيم انحدرت زينب المجاهدة لتأخذ كل عبق القيم والشيم..
ويوماً وبعد رجوع زينب التي كانت وحيدة لأمها، بعد وفاة والدها إثر مرض ألم به وحالهم الفقيرة لم تمكنهم من اسعافه رغم قلة ثمن علاجه ذلك الوقت..
عادت قُبيل المغرب من الزرع ومعها مواشي أربعة يرقصن بعد أن شبعن من الرعي، دخلت من خلف البيت الطيني المطل على الزروع والبيت له بابان باب خلفي وآخر مقابل السدة الترابية هي حاجز للقرية من مياه الشط الكبير بعلو سبعة أمتار تشكل أمواجه لحناً خرافياً لأهل القرية عندما يصطدم بالكهف..
دخلت ووجدت نساء متقدمات في السن تعرفهن عدا واحدة لم ترها من قبل سلمت عليهن وقمن بوجهها بحرارة وبكلمات: "تبارك الله" ما أجملها وقد شكل الحجاب الذي يحيط وجهها القمري الذي سرعان ما تبدل إلى حمرة من الخجل زادت من جمالها جمالاً..
ومن عادة الفتيات أن لا يجلسن مع الكبار والدخول بالحديث، الذي قد يكون خاصاً، فضلاً عن أن الموقف أصلاً يبعث على اختفاء زينب الخجولة بطبعها..
دخلت غرفتها الطينية والتي يشاركها بها بعض الأغراض من محمل من خشب وطعام ومؤن وغيرها..
زينب تصلي ومحجبة ولها كلام رائع رغم بساطته قد تعلمته من خلال المدرسة التي كانت فيها وكان اسمها (مدرسة الجزائر الريفية) فيها كادر تدريسي من كل الاعراق والقوميات، وكان كل مدرس عبارة عن ثورة أخلاق ومعلومات، لا يكتفون بإعطاء الدرس والمادة فقط، بل يحاولون بطريقتهم التي تنم عن حمل للتكليف الشرعي المبرئ للذمة، فيقدمون الأخلاق والبناء الروحي للتلاميذ؛ لأنهم يعلمون أن المهمة هي ذات مهمة الرسل والأنبياء الذين أهدافهم خلق الإنسان بالعلم والتربية.
ومن خلال مذياع صغير اسمه (قيثارة) بحجم اليد قد اشتراه لها خالها المعلم في قرية بعيدة من تلك القرى، والخال كان مؤمناً ثورياً مقاوماً له جلسات مع الكثير من أبناء القرى يوجههم نحو العقيدة مع خطورة هذه الجلسات الفكرية في زمن البعث، كان قد قال الخال لزينب: يا حبيبة خالو هناك برامج جداً مفيدة لك، ولكن جداً خطرة، احذري من أن يعرف بك احد، تبث من على اذاعة بعض البلدان العربية الإسلامية فيها أشكال من المعارف والمعلومات الفقهية خاصة برنامج رائع (قراءة في أفكار المرجع الكبير السيد السيستاني بشؤون الشباب).
المهم في غمرة استراحتها، دخلت عليها أمها والدموع على خدها، وتمسحهم بقطعة قماش سوداء اسمها الفوطة او الشيلة وهي حجاب الأرياف.
قالت لها: هل تعرفين ماذا يردن هؤلاء النسوة..؟ قالت مندهشة: لا..!
قالت أم حسان: تريدك لابنها، واذا بزينب تلطم وجهها خجلاً واضطراب، تعجبت الأم فمقتضى الحال أنها تفرح وهذه سيرة البنات في القرية..!
قالت الأم: افهم من جوابك انك غير راضية على هذا الزوج، الأم بحيرة تخشى الرفض.. والرفض في القرية وأعرافها يعطل أو يؤخر نصيب البنت، وبين أنها تمثل كل حياتها بعد أبيها، وقد تعبت عليها كثيراً..!
زينب المرأة الصبية لا أحد في القرية يعرف سرها وهي كتومه جداً، بل يضرب بها المثل في بنات القرية، وقلما تذهب لمناسبات عامة ولو ذهبت أصبحت حديث نساء القرية حياءً وتصرفاً وسلوكاً والكثير من أهل شباب القرى طلبها للزواج وكان جوابها: لا أستطيع ترك أمي التي منحتني حياتها وقضت على أروع زهرات شبابها وهو كان عذراً مقبول نوعاً ما.
حتى مرت أشهر على زينب وهي ناعور من العمل يملأ الكؤوس ويفرغها لمن يريد الماء لتستمر بالحياة..
ليأتي يوم من الأيام حلّ فيه ابن خالها الذي كانت قد أحبته؛ لأنه متدين بالفطرة وعفيف ومن المقاومين، وقد تعرض للسجن في تلك الفترة التي كانت ترفض بها الزواج من الاغراب بعد أن عرفت في إحدى الزيارات العائلية لأداء واجب الزيارة للسجن أنه وعن طريق اخته الكبيرة راغب في الزواج منها، كلمة كانت تكفي لجعلها ميثاقاً وعهداً لا تفصله أو تفسخه الظروف، ولذا كانت قد لطمت وجهها حين قالت لها امها عن الزواج.
واذا بسيارة ممن يستخدمها أهل القرى والأرياف قد نزل منها أشخاص..
نساء ورجال ومعهم طفلان صغيرين هرعت الأم على أخيها تعانقه، وهي منذ زمن لم تره، ومع ابنه الذي كان في السجن، ومعهم أكياس فيها أنواع من الفواكه والمؤن والحاجيات التي اعتاد الخال على جلبها كلما سنحت له الفرصة.