ملخصات في الذاكرة..الخيال الشعبي في الميثولوجيا العربية
20-12-2019
ا.د عبد الرضا علي
في التراثِ المتنوّعِ لا تعدَمُ أن تجدَ الكثيرَ من المُخيّلِ المنافي للعقلِ والمنطق، وهو شأنٌ ينبغي توصيفُهُ منهجيّاً.
فالخيالُ الفنّيُّ: تشكيلٌ سحريٌّ يؤديه كلامٌ يُثيرُ في المتلقّي انفعالاً هدفَ إليهِ صانعُهُ مع سبقِ الإصرارِ والترصّدِ، بعدَ أنْ تقصّى حركتَهُ النفسيّة بتصميمٍ واعٍ، وتقديرٍ ذكيٍّ، وهذا التشكيلُ السحريُّ لا يقدِرُ عليهِ غير الفنّانِ المبدعِ، وهو على وفقِ رأيِ العلامةِ المرحومِ عليّ جواد الطاهرِ: ((أن تخلقَ من أشياء مألوفةٍ شيئاً غيرَ مألوفٍ في الفنِّ عموماً)).
وقد أشار إلى أهمّيتهِ في الإبداعِ نقادنا القدامى، وأوضحوا قيمتهُ الفنّيَّةَ في عمليّةِ الإدهاش، والإثارةِ، ولعلَّ خيرَ من وقفَ عندهُ من القدامى ابن سينا في كتابهِ (الشفاء) حين قال: ((والمُخيّلُ هو الكلامُ الذي تذعنُ لهُ النفسُ فتنبسطُ عن أمورٍ، وتنقبضُ عن أُمورٍ من غيرِ رويَّةٍ وفكرٍ واختيار. وبالجملة تنفعلُ لهُ انفعالاً نفسانيَّاً غيرَ فكريٍّ، سواء كان المقول مصدّقاً بهِ، أم غيرَ مصدّقٍ)).
فالبردُّونيُّ حين يقولُ :
طلبتُ فطورَ اثنينِ قالوا: بأنّني وحيدٌ فقلتُ: اثنينِ إنَّ معي صنعا، فقد خلقَ من هذهِ المفرداتِ المألوفةِ المعروفة: طلبتُ، اثنين، وحيد، فطور، صنعاء... إلخ، صورةً غيرَ مألوفةٍ في سحريّةِ الأداءِ :
وهكذا يتمُّ تكوينُ الخيالِ الساحرِ.
أمورٌ تؤكّدُ مقولة أدونيس من أنَّ: ((الأسطورةَ دفءٌ للعقلِ والجسد))، ممّا يذكِّرُ به الشاعرُ الفرنسيُّ باتريس دولار دوبان في عبارتهِ الجميلة: ((الشعبُ الذي لا أساطيرَ له يموتُ من البرد)) خير دليلٍ على أهميّةِ هذا الدفءِ الفنّيِّ.
غير أنَّ حكاياتِ (لافونتين) أوضحت أنَّ الخُرافةَ في الأدبِ الشعبيِّ: هي قصّةٌ قصيرةٌ خياليّةٌ أبطالُها من الحيوانات والبشرِ، فيها الشعرُ أكثرُ من النثرِ، وقد بيّنَ الكاتبُ الفرنسي (فلوبير) أنَّ (لافونتين) قد تأثّرَ بكتاب (كَليلة ودِمنة) لابنِ المقفّعِ المترجمِ من الفارسيّةِ عن الأصلِ الهنديِّ.
إذن، فالخرافةُ قصّةٌ اختلطت فيها الرموزُ الحيوانيّةُ بالشخوصِ الإنسانيّةِ على نسقٍ من الأخيلةِ التي لا ترتبطُ بالواقعِ أبداً، لكنّها تؤدّي مغزى، أو تهدفُ إلى نشرِ فضيلةٍ ما.
أكَّدَ بعضُ النقّادِ العربِ أنَّ الأسطورةَ هي الجزءُ القوليُّ المصاحبُ للطقوسِ البدائيّةِ .
إنَّ بلقيسَ حقيقةٌ وتاريخ، وقد ذُكِرت في القران الكريم، وقصّةُ زواجِها من سليمانَ (عليهِ السلامُ) من القصصِ القرآنيِّ الذي يحملُ الموعظةَ والمغزى، والتأكيدَ على حقيقةِ الوجودِ، لكنَّ القرانَ الكريمَ لم يُشِرْ إلى والِدَي بلقيسَ؛ لأنَّ اللهَ سبحانهُ لم يشأْ ذلك، من هنا تلقّفَ الخيالُ الشعبيُّ هذا الأمرَ، ونسجَ قصصاً ما أنزلَ اللهُ بها من سلطان.
ففي قولهِ تعالى: ((قيلَ لها ادخُلي الصَّرْحَ فلمَّا رأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وكَـشَفَتْ عن ساقيها قالَ إنَّه صَرْحٌ مُمَرَّدٌ من قواريرَ قالَتْ ربِّ إنِّي ظلَمتُ نفسي وأسلمْتُ مع سليمانَ للهِ ربِّ العالمين))، إشارةٌ إلى ما كان من عملٍ مدهشٍ لذلك الصَرْحِ بحيثُ حسبتْهُ ماءً رقراقاً فكشفتْ عن ساقيها لئلا تبتلَ ملابسُها الملكيّةُ، فما كان من صانعي الخيالِ إلا استثمارَ الساقينِ، فأشاروا إلى أنها ((شعراء الساقين، ورجلها كحافرِ الحمار)).
وبعد أنْ ((أسلمت، وعزم سليمانُ على تزويجها، فأمر الشياطينَ فاتّخذوا الحمّامَ والنورةَ، وهو أولُ من اتخذَ الحمّامَ والنورةَ، وطلوا بالنورةِ ساقيها، فصارَ كالفضّةِ، فتزوّجها... وأبقاها على ملكها. وكان يزورُها في كلِّ شهرٍ مرّةً على البساطِ والريح)).
من المدنِ، والأماكنِ التي حفلت بالخيالِ الشعبيِّ عند ياقوت الحمويِّ في معجم البلدان ((إرَم ذات العماد)) و((عين وبار))، فقد اختلطت فيها الحقائقُ بالأخيلةِ، وإذا كانت إرمُ ذاتُ العماد قد تعرّفها المتلقّون من خلالَ القرآنِ الكريمِ في قولهِ تعالى في سورة الفجرِ: ((ألمْ ترَ كيفَ فعلَ ربُّكَ بعادٍ، إرَمَ ذاتِ العمادِ، التي لم يُخْلَقْ مِثْلُها في البلاد))، فإنّ الإخباريين أشاروا إلى أنّ شدّادَ بنَ عادٍ بنى جنَّةً في الأرضِ، لينافِسَ بها جنّةَ اللهِ ((فلمّا قرب شدّادَ من المدينةِ جاءتْه صيحةٌ من السّماِء فماتَ هو وأصحابُهُ أجمعونَ، حتّى لمْ يبقَ منهم مخبرٌ (...) وساختِ المدينةُ في الأرضِ)).
أمّا عن العمرِ الذي بلغهُ لقمان، فإنَّ الخيال الشعبي يحلِّقُ فيه عالياً، فقد جاء في ((كتاب التيجان في ملوك حمير)) أنَّ عمرهُ بلغَ أكثر من ألفٍ وسبعمئةِ سنةٍ، وأربعٍ وستين.