محاورة مع كتاب.. (اتجاه الدين في مناحي الحياة) لسماحة السيد محمد باقر السيستاني (دام عزه)
18-12-2019
لجنة الدراسات والبحوث
- ما علاقة الدين بالحريات الشخصية..؟
الكتاب:ـ قد يظن أن المنهج التشريعي في الدين يحالف القانون الفطري؛ وذلك لأنه من المفترض حساب هذا القانون ان يترك المرء حراً في هذه الحياة من حيث اختيارات الشخصية فيقتصر فيما يلزم على عدم تجاوزه على الاخرين، ولكن نجد أن الدين يقيد الحريات الشخصية للإنسان كثيرا، فيما لا مساس له بالإخلال بحقوق الاخرين مثل مقتضيات العفاف كمنع المرأة من أن تظهر بمظهر الاغراء أمام الرجال، أو منع العلاقة غير المشروعة بينهما، وقد يظن في بعض الأمور تحديدا للحرية مع انها ليست كذلك، مثلاً التأثيرات السلوكية غير السالبة للحرية، فإن الحرية قد تطلق على ما يقال على الاجبار العملي للإنسان على العمل، بحيث تقتضي أن يجنب ممن يقدر على تأثيره من الاخر تأثيراً عملياً على اختيار ذلك للآخر، أن لا يبدي له أي موقف، لا على سبيل الطلب ولا على سبيل الارشاد؛ لأنه قد ينزعج ويتضايق من النصيحة، وان يبدأ موقفا على سبيل النصح والإرشاد لا على سبيل الطلب او الفرض، فإن اخذ بالنصيحة فقد انتفع، وان يبدأ موقفا على سبيل الترغيب من غير الالزام، فيكون الالزام صورياً خالياً من الحكم الجزئي.
والحرية التي تذكر منافاتها للقانون الفطري انما هي ما يقابل الاجبار العملي والسر في ذلك أن قيمة الحرية نابعة من قيمة الشعور الفطري للإنسان بالحاجة اليها، لا يمنع من عناية الانسان بالتوصل الى العمل الأمثل بما لا يقود الى ذلك من خلال أساليب كثيرة : التربية الصالحة بالأدوات السليمة للأولاد عن التربية التعليمية من قبل المعلمين للتلاميذ ام التربية الاجتماعية لرعاية افراد المجتمع للسلوكيات اللائقة للمنظر الاجتماعي العام، والتشويق الى العمل الصائب من خلال أدوات الفضل والاحسان سواء في داخل الاسرة بين الزوجين والوالدين والأولاد والاقارب في المجتمع العام.
النقد والتمحيص من الأدوات العامة للتأثير الاجتماعي فهذه الأساليب امثلة لكيفية التأثير والتعاون الاجتماعي على نشر التجنب والخطيئة، وقد حث الدين على ممارستها وفق ما يجري عليه العقلاء في حفظ المقاصد العقلائية.
- هناك مادة صعبة الفهم علينا هي عدم سلب الالزام..؟
الكتاب:ـ الحكم الالزامي في الشرع تجاه شيء، كتحريم الكذب مثلاً لا يقتضي اجبار الناس عملاً على مراعاته لجعل الحكم جزائياً دنيوياً على مخالفاته، ولا يلزم عدم حماية الحكم المجعول بأجزاء دنيوية لغوية جعل الحكم تشريعي في هذه الحياة وانه يكفي في الحماية الجزئية التي ينبغي الا يخلو عنها الحكم الالزامي مما يوعد بوقوعه في الحياة الأخرى بعد ان كان الانسان باقياً بعد هذه الحياة.
وان هوية الحكم الشرعي بحسب الترجيح بعض اهل العلم اشبه بهوية القانون الفطري الذي يحكم به الضمير الإنساني منها بهوية القانون الوضعي، ومن القانون الفطري وهو ما يقتضي به الضمير الإنساني من تحسين بعض الممارسات وتقبيح بعضها، ليس منوطاً بوجود حكم جزائي تشريعي، فالضمير الإنساني يحكم بقبح إيذاء الناس بالسخرية والنميمة والانتقاص وغير ذلك، وان لم تكن هناك عقوبة محتملة على ممارسة ذلك فهذا هدي جعل في داخل الانسان ان يجري عليه ويسعى الى رعاية الاخرين بمقدار ما تقتضيه الحكمة وعليه يصح جعل الحكم شرعي على وجه الالزام؛ لأنه يمثل الحكمة اللازمة والفضيلة الواجبة كما يشجع الآخرين كالآباء والمعلمين على تربية الأطفال والناشئين عليها، بل يدخل ذلك في جملة وظائفهم الشرعية، وهو مالا يتحقق فيها لو لم يجعل الحكم في مستوى الالزام وهذا لاحظناه في الاحكام الشرعية نجد انها تختلف في مدى الاجبار العملي، فعُدّ الاجبار على مراعاة الحكم أصلا فيكون الحكم حينئذ اشبه بالحكم الأخلاقي، ومن ثم لا يعاقب على الكذب والغيبة والنميمة وترك الفريضة من غير مجاهرة عقاباً دنيوياً بل يحرم الدين التجسس على الاخرين في جملة من الموارد. وان حماية الحكم بحكم الجزائي على وجه مطلق يقتضي مجازاة على مخالفة في حالة ثبوته بأي وسيلة مقبولة لدى العقلاء، وعد العقوبة على مخالفة الحكم في حال عدم ثبوت الخطيئة على شخص بعد اقلاعه عنها وتركه لها والتعامل في جملة من الموارد مع ثبوت المعصية بشيء من التغاضي وحسن الظن كما اكتفى بوجود الشبهة لصاحب الخطيئة في درء العقاب عنه، كما في حديث مروي للنبي عليه الصلاة والسلام: (ادرؤوا الحد بالشبهات)، فمن ادعى عذرا محتملا في حقه فانه يعذر ويرفع عنه العقاب وان خلاف ظاهر بعض الشيء وهذا المبدأ معروف فقهيا في أبواب الاحكام الجزائية الشرعية.
وان الدين قد يسمح بإلغاء العقوبات المقررة في ظروف وجود منشأ موضعي، يوجد انتشار الخطيئة، نظير الغاء حد السرقة في ظروف النجاح كما جاء عن اهل البيت D وقد ظهر بذلك على الاجمال ان التشريع الالزامي ليس مقروناً بالإجبار العملي المطلق من خلال الوعيد بالحكم الجزائي على المخالفة.
واما بالنسبة الى إحساس المرء بحاجة الى تركه حرا قد يكون إحساسا مؤقتا اذ وقعت له مضاعفات سلبية تمنى لو لم يترك حراً في حينه، فلذلك نجد الكثير من الأولاد في البيئات المحافظة قد يبدرون تضايقا من الحدود التي يوصون بها ولكنهم في مرحلة النضج يحمدونها ويسرون بها ومن الضروري أن يقيم شعور المرء بالحاجة الى الحرية في سلوكه العملي في ظهور شعوره المستقبلي المتوقع.
- هل هناك حدود فطرية للحرية..؟
الكتاب:ـ إن الدواعي الفطرية عامة هي فطرية في مستوى منها وتكون اكتسابية فيما يزيد على ذلك، أصل داعي الاكل داع فطري الا ان هذا الداعي يتطور من حيث الكم والكيف لدى كل انسان وفق ظروفه واحواله مما يؤدي الى عادات واتجاهات مختلفة، فهذه العادات والاتجاهات ليست فطرية بخصوصيتها وانما هي دواع مكتسبة وفق العوامل المتجددة، فإنها في اصلها حاجة فطرية، ولكن امتداداتها حالة مكتسبة وفق العوامل المتجددة، باختلاف الظروف والاحوال، ومن ثم لا يكون تحديدها في المساحة المكتسبة، وفق المقتضيات الحكيمة والفاضلة صدودا عن الاستجابة للفطرة وجافيا معها، ومن ثم ينبغي التدقيق في هوية المساحة التي يتمسك المرء بها هل هي من المساحة الفطرية والمكتسبة، وان لا يصادم حقوق الاخرين، وهذا التحديد مما يقضي به العقل على الاجمال، فإن الحرية المستحقة للمرء تتحدد بعدم كونها إضراراً بالحقوق الخاصة او العامة للآخرين، فهي مثل حق الجيران والوالدين فقد يرى المرء ان من مقتضيات حريته الشخصية ان يفعل في بيته ما يشاء من عمل ونشاط وممارسات ولا علاقة لجيرانه بذلك لا يصح للإنسان ان يتصرف في ملكه بما يضر الاخرين من المبادئ من المبادئ القانونية المسلمة والتي لا خلاف فيها ويجعل الشخص بيته محلا لأعمال غير لائقة بما يهدد اخلاق الناشئين في بيوت الجيران.