حديث النسور
15-10-2019
العلوية ميعاد كاظم اللاوندي
على حاجبي لمع نسرك يا وطن، وحطت على أكتافي نجوم المعالي..
نعم، فاليوم ليس كباقي الأيام..
اليوم اختزل عمري كله وساماً حين علقوه على صدري، وأعلنوا جهوزيتي للقتال..
استأذنت قائدي، وتقدمت الصف الأول من كردوس الاستعراض المهيب؛ لأحظى بنظرات أحبتي، وقد ملأها الافتخار، وتهفو روحي لتلك المرأة الشامخة بين أمهات البواسل، وهي تلوّح لي ببيرقها الأخضر، وعبق أريجه يكاد يملأ سماء المكان.
ليتني قربها الآن؛ لأقبّل قدميها وأتبرك بشذى فردوسها، فهي من غذتني الحب، وعلمتني كيف أكون شامخاً كشموخ بلادي..
وحانت لحظة الحقيقة، وها هي ذا عزيمتي تنطلق لترتقي متن طائرتي الحربية، ووقع دويّ قذائفها يلهب فضاء الحرب كأهازيج نجيبة العرب حين تشحذ همم صناديد قومها، عندما تتشابك الأسنة، وتحتدم رحى المعارك الضارية..
وها هو ذا مجدي قد أحيل حمماً مستعرة، وقد دكت مغاور خفافيش الظلام، فصاروا هشيماً تذروه الرياح.
عاد النسر المحلق مزهواً بنصره مخلفاً وراءه طرائد قد ملأت أشلاؤها العفنة بوادٍ وسهولاً رحبة..
والتحف المحارب ليله مغموراً بالسعادة، وهو يَعِدُ نفسه بغارة أخرى، وطلعة صيد جديدة، ثم أسدل جفنيه، واستسلم لنوم عميق، ثم كان ما رأى..
- الى أين..؟
- الى قدري الذي خطه الله لي..
- ولكن.. أو ليس قدرنا واحداً..؟!
- كان كذلك، لكني أيقنت أني معكِ لن أدرك الفتح، ولن أنال مبتغاي، وسأُدرَسُ مقبوراً منسياً بلا شهادة خلود..
- ولطالما كنت أثمن ما لديك، ثروتك التي تتفاخر بها، ربيعك النضر، أنشودتك التي ما فتئت تتغنى بها، انظر الى من تسلمني الآن..!!
للموت ليحيلني أثراً بعد عين.. تراباً يُلحدُ حسني، ولا زلتُ شلالاً هادراً أسري في عروقك، والآن تروم مفارقتي ولم ننفك لحظة، قريبين حميمين نصنع من روح الحياة مغامرة.. نخوض غمارها معاً، أتذكر كيف كنا نخطف الأضواء من أحداق ليالي تموز الباردة، وننثره آمالاً على وجه دجلة الناعس.. حلماً مهاجراً على أجنحة النوارس الى البلاد التي لا تنام الى حيث اللاعودة.. أم تراك نسيت كيف تغزلنا بجدائل جميلة حيّنا دون علمها، حتى حظيت بها عروسة زين الشباب..؟!
- لم أنسَ، إنما هي حياتي الماضية أرشيف طويته حالما علت دعوة بلادي.. أما الآن، فأنا على مفترق طرق، فدعيني أسلكُ طريق الفلاح..
- لماذا أنت..؟
- ولماذا غيري..؟ ومن أولى بعشق وطني مني، وفضائله تملأ ذرات كياني..؟
- ورحلة العمر..؟
- ألغيتها..!
- وعروسك..؟
- عروسي..! تركتها تعد ثوب زفافنا، وقد عاهدتني أن لا تكون لغيري، حتى يجمعنا الله تحت ظل رحمته..
- أقول: ما زال الوقت باكراً للرحيل..
- أبداً.. فنحن لم نُخلق للفناء.. بل لنعود لحياتنا الأبدية، من حيث جئنا، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وأما أنا، فقد اخترت العودة وعلى رأسي إكليل الشرف، وسأحمل نصري بياناً أعلنه على رؤوس الأشهاد يوم الفزع الأكبر..
أذّن الفجر، وانطلق النسر محلقاً من جديد..
وسادة خالية، تعلوها رسالة ندية قد خُطت بمزيج من حبر ودمع..
اليوم سأنقلب على ذاتي، وسأتعالى على نفسي، وأعتقها من حبائل الدنيا الفانية، وسأشد على أجنحتي أمنيات شعبي، وسأظل محلّقاً في سماء معشوقي.. أخفر أسواره، وأحرس شطآنه، ولن أهوي على تربه إلا مضرجاً بدمي، فإن لحدتموني فانقشوا على رخامة قبري:
(أنا السائر على خطى من رحلوا قبلنا، استشهدوا فحيينا، واستشهدت ليحيا اسمك الغالي يا عراق، فهذا ولائي، وهذه سمائي، وهذا حديث النسور عندما تعشق أوطانها).