الحسين ع ثورة لهيبها مستمر الى يوم الدين

15-10-2019
صادق غانم الاسدي
لم يكن خروج الإمام الحسين بن علي C على يزيد بن معاوية لقلب فكرة اتلفت عقولاً، وغيرت معتقدات الضعفاء، وانحرفت بأصول الدين الإسلامي، واستباحت المحارم لما دخل عليها من بدع وأمور لا تتماشى مع البعد الروحي لتعاليم الدين الاسلامي, بل إن الخروج عليه شكل منعطفاً للحياة السياسية بعد أن تكالبت المواجع والأخطار المحدقة بالأمة الاسلامية في أحلك الظروف، وخصوصاً أن الإسلام في تلك الفترة لم تحسب له حسابات في موازين القوى العالمية وتوجب عليه المحافظة على الوحدة الدينية والسياسية, ونستطيع أن نشخص بإمعان أن تلك المرحلة خطرة بكل معطياتها، إذ ارتكبت تصرفات وتجاوزات باسم راعي وخليفة المسلمين وامامهم, وحصل ابن معاوية على هذا اللقب الديني بالتحايل وانتهاج سياسة الترهيب والترغيب.
ويذكر لنا التاريخ عن سيرة أبيه معاوية واتخاذ الحيل والمكائد باسم الدين لتمرير مصالحه وقتل خصومه وانصار عدوه العادل علي بن ابي طالب A فقتلهم جميعاً في مواقع كثيرة كمرج العذراء, وارسل الى البعض منهم من يسقيهم السم بالعسل وهم من المسلمين الاوائل، واغلبهم عاش وصحب رسول الله J, وهو بذلك هيأ الطريق المعبد بدماء الابرياء ودماء انصار الحق والموالين لعلي A ليخلد به ولده يزيد الفاجر, كما حذره من خروج بعض الاشخاص عليه واشار بذلك الى خروج الحسين A ليطالب بالخلافة الشرعية له.
كما أسس في الإسلام لأول مرة نظام الوراثة من خلال تنصيبه ولده، وابتعد عن روح الفكر والحرية والمشورة, وعند وصول يزيد الى الحكم وما يحمله من تداعيات وخلفيات بعيدة عن روح الجدارة والمسؤولية الدينية التي لا تؤهله أن يكون راعياً في الصحراء مع اعتزازنا بهذه المهنة، وأردنا من خلال هذا الوصف اعطاء تصور مناسب لمؤهلات الخليفة الجديد وشخصيته, وفعلاً لم يتدارك يزيد الامر ويتصرف بما تتطلب منه المسؤولية الدينية امام الله وجميع المسلمين .
فقد اتخذ المنصب الجديد الذي لا يستحقه لتمرير أفعاله، وبما يتناسب مع خلفيات هذه العائلة ليوغل بالانتقام من هذا الدين الذي قضى على آل سفيان ووضعهم بالخط المستقيم والقريب من الذي كانوا عبيدهم في الأمس؛ لأن الاسلام لا يفرق بين الموالي والاعراب والاسود والابيض إلا بالتقوى والعمل الصالح, فأخذ يجمع يزيد اصحابه في الفكر والزندقة وسلطهم على رقاب المسلمين الاوائل في المدينة والكوفة وباقي الامصار الاسلامية ويترقب وينقل اليه من خلال هؤلاء الحركات المعارضة، وظهور حالة الرفض على حكمه؛ لأن المسلمين يعرفون جيداً انه غير جدير بهذا المنصب في الوقت الذي كان فيه المسلمون أحوج الى أن يقودهم رجل رشيد، يدفعهم في هذه المرحلة الخطرة من تاريخ الاسلام.
لقد ترك يزيد أمور المسلمين وانشغل بأمور بعيدة عن روح الاسلام وادارته في احوج الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية, لاسيما وأن الأخطار المحيطة بالدولة الاسلامية الفتية من جهة الشرق والغرب تتربص بالمسلمين, وبدلاً من نشر الفكر والحضارة الاسلامية الى الجهات والمناطق المحررة التي وصل اليها الاسلام عن طريق التجارة او حملات الفتح, والتي تعرضت الى النقد من بعض المؤرخين والعلماء في هذا الاختصاص؛ لأنها لم تكن حروب تحرير او نشر فكر الدين الاسلامي مثل ما خاضها الرسول محمد J في بداية الدعوة الاسلامية ونشر فيها راية الله اكبر أو تحرير أجزاء من الأراضي الاسلامية كانت بيد الغزاة.
الكثير من الروايات التاريخية والدينية الصادقة تشير الى ان يزيد اهتم بالغناء وشرب الخمر والرقص حتى الصباح، ومن هوايته المفضلة تربية الحيوانات, في الوقت الذي ترك حقوق الاسلام وكتاب الله وادارة شؤون الخلافة المغتصبة, وانشغل بالفساد والملذات وقد يكون هذا مختصراً بسيطاً لشدة ما قام به يزيد من فواحش وأعمال.
ومن جهة أخرى، كان الامام الحسين بن علي A يسمع ويراقب هذه الاعمال والتجاوزات وضياع ما بناه جده رسول الانسانية من مجد وقيم, وما يفعله من اعمال يقوم بها يزيد لتشويه الدين الاسلامي والابتعاد عن المبادئ الانسانية, كما تألم الامام الحسين على ما جرى لأنصار ابيه علي بن ابي طالب A من تهجير وقتل وتدمير وصلب, كل ذلك جعل الامام الحسين A أن يفكر بإنقاذ الأمة من هذا الظالم والمحافظة على مكتسبات الاسلام, في الوقت الذي استدعي الحسين لأكثر من مرة لمبايعة يزيد، فأبى الموت على أن لا يبايع يزيدا.
لقد فتحت تلك المساجلات والتصرفات والمسؤولية الشرعية التي وقعت على عاتق الحسين لإنقاذ الامة واستناداً الى قول الرسول محمد J: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك اضعف الايمان).
هذا القول وغيره من أقوال كلام الله جعل الخروج لنصرة الدين ضرورة قد حان وقتها علاوة على أن الخلافة اغتصبت منه عنوة وبالحيلة والمداهنة وما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة, وتجاهل ايضاً يزيد قول رسول الله J: "الحسن والحسين امامان إن قاما وان قعدا".
وتحت الضغط والمسؤولية الشرعية قرر الحسين الخروج مع اصحابه الخلص لمواجهة يزيد واختيار الاصحاب هنا، لم يكن وليد صدفة أحكمتها الظروف او مجاملة للخروج معه، ولا يخفى على الجميع أن خروج الصحابة بهذا الكم وتحت ستار الخطر هو خروجهم للموت ومناصرة الحق وادراكهم بأن المعركة التي تنتظرهم مع يزيد تكلفهم ارواحهم وهم بذلك قرروا لا عودة للحياة بدون الامام الحسين.
واتجه الحسين لمقاتلة الطغيان بعد خروجه قال: "اني لم اخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالما، انما خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدي رسول الله، أريد أن أعمل بالمعروف وأنهى عن المنكر", ولا اخوض هنا بالتفاصيل لمعركة غير متكافئة بين الطرفين، ولو لم يخرج الحسين A على يزيد لتغير وجه التاريخ الاسلامي لصالح الفسق والكفر، ولتلاشت معانيه وانحرفت الكثير من أدبيات ووصايا الرسول وتفاسير الحق عن الاسلام الصحيح.
إن طريق الحرية والكرامة لا يمكن المرور فيه إلا بسيل من الدماء الزكية التي ترويه. إن خروج الحسين A كان ثورة عالمية انتصر بها كل المحاربين والثوار اينما حلوا ووجدوا، واتخذ منها زعماء الأمة مناراً ينير الدرب يهتدي ويثور بها المضطهدون، وقالها غاندي: ((تعلمت من الحسين كيف اكون مظلوماً فأنتصر)).
إن الشجاعة التي أبداها الحسين بن علي A في واقعة الطف أصبحت حالة من الهيجان الثوري في قلوب وعقول الثوار, وكانت فاتحة لجميع الثورات في عهد الأموين والعباسيين، ولم تتوقف إلا بإزالة كل رمز من رموز الدكتاتورية والقضاء على طواغيت العصور، وإن استمرار ذلك يعود الى استلهام واقعة الطف، واتخاذها من قبل جميع الثوار نصب اعينهم، لتكون شاهد عصر وحافز ليدق اجراس الحق في صروح الظلم اينما وجدوا في زمان ومكان.
وإن التصورات العجيبة والغريبة لبعض الحاقدين كما يقولون باستمرار أن الحسين تذرف له الدموع فقط، وما أكثرهم للبكاء عليه فقط, الحسين يستحق منا الدموع الصافية التي تخرج من القلب وتسقط من العيون, لا دموع الذل، انما هذه الدموع هي الحراب المستمرة بوجه الطواغيت، وسند حقيقي لنصرة الثائرين وسلاح للمقاومة يندفع به الثائرون الى قصور الحكام والمفسدين المتربعين على عروش الحكم، وهذه الدموع هي انذار مستمر وتذكير لما قدمه أبو عبد الله من تضحية مع افراد أهل بيته وأصحابه ألا يستحق منا أن نواسيه ونبكي عليه؛ لأن المأساة قد بكت عليها ملائكة العرش.