عين اليقين..
23-09-2019
رجاء محمد البيطار
"تفكّر ساعة خير من عبادة سبعين سنة!"
".. ويتفكّرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً.."(1).
وأتوقف طويلاً أمام هذه العبر ومثيلاتها من الفِكَر، بين حديثٍ شريفٍ معتبر، وآيةٍ كريمةٍ أوحى بها رب البشر لسيد البشر، وأتفكّر: ترى، ما سر هذا التفكر الذي يسجد في محراب الكون، ويكشف للإنسان ألغاز الخلق هوناً بعد هون، ويرفعه إلى مصافّ العبّاد والزهّاد، والصدّيقين والأشهاد؟!
وأتذكّر كلمةً قرأتها منذ صباي في كتب أهل الدنيا، أرادوا بها وضع قاعدةٍ للتمييز بين الإنسان وسائر الكائنات، فألجأتهم سطحية الاعتقاد إلى القول: "الإنسان حيوانٌ ناطق"..!
وأتبسّم، ألم يُجدِهم تفكيرهم في الوصول إلى أعمق من هذا المنطق الحاذق؟! أوليس في الإنسان ما يرفعه من حضيض الحس والمادة سوى نطقه؟!
بل إن الحيوان ناطقٌ أيضاً، وفي لغته ما يسمو به إلى حقيقة خلقه، فهو يسبّح ربه ويمجّده، ويذكره بلغته ويعبده، بل إن بعض الحيوانات يحاكي الإنسان ويقلّده، فإذا هو ينطق بلسانه دونما إدراكٍ لحقيقة بيانه.
"الإنسان حيوانٌ مفكّر..!"
هو ذاك، إن صحّ أن ننعت الإنسان بالحيوانية، إذ هي داخلة في تركيبته الماديّة، وهو وحده القادر على تحديد كمّ الحيوانية الذي يرتضيه لنفسه، ولغيره في تأثيره عليه بوجوده معه، وتفاعله مع مجتمعه، فيحجّم أو يعظّم قدر الحيوان في صنعه؛ فهو إما أن يهبط إلى دركٍ أدنى منه، حين يتنكّر لوضعه، ويقلّص روحه ويسجنها في حدودٍ تقلّ كثيراً عن وسعه. وإما أن يسمو بها ويرقى إلى روحٍ وريحان، ويسبغ عليها ما أحاطه به الديّان من حقيقة الإنسان، إذ قال جل جلاله:
"وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون"(2).
وأي عبادة تلك، هي مقياس الإنسانية وميزان النجاح والتفوّق في امتحان النفس البشرية؛ التفكّر والتدبّر، والتعقّل والتشكّر.
وحينما يصبح العقل خادماً للروح، يأتمر بأمرها؛ تسيّره في مسارها العلوي، وتستخدمه في رقيّها الملكوتي، وتطوّعه لعنصرها النوراني، عندئذٍ يتسامى الإنسان بذلك السر الإلهي الذي جاء ذكره في الحديث القدسي:
"لما خلق الله تعالى العقل استنطقه، ثم قال له أقبِل فأقبل، ثم قال له أدبِر فأدبر، ثم قال:" وعزتي وجلالي، ما خلقت خلقاً هو أحب إليّ منك، ولا أكملتك إلا في من أحب، أما إني إياك آمر وإياك أنهى، وإياك أعاقب وإياك أثيب".(3).
أجل، وحينما يأتمر العقل بأمر ربه، بأمر الروح التي هي من أمر ربه، فهو العقل المؤمن الذي يدني الإنسان من ربه، ويرفعه إلى أعلى درجات حبه وقربه.
ولكن، أين موقعهم، أنوارُ الله وأسرارُه، في هذه التذكرة المعتبرة، التي تميّز المؤمنين من الكفرة، وهم من علِمناهم مفاتيح الإيمان وحقائقه الظاهرة والمستترة؟!
إنهم في لبّ الذكرى، فهم أصل الفكرة وعنوان تلك التذكرة، وما التفكّر في خلق السموات والأرض وإدراك الهدف من ذلك الخلق إلا إدراك حقهم، وهم الذين ما خلق الله سماءً مبنية ولا أرضاً مدحية، ولا قمراً منيراً ولا شمساً مضيئة، ولا فلكاً يدور ولا بحراً يجري ولا فلكاً يسري، إلا لأجلهم ومحبتهم، وفي ذكر الجزء ما يغني عن الكلّ، فالكون بهم كله قد حلّ.
ويتألق في الفكر حديثٌ لإمام المتقين A، رواه المحققون في إثبات فضله الذي لا يحتاج لإثبات وهو النور المبين، إذ أن من رآه رأي العين فقد رأى عين اليقين، فعن النبي J:
"إن الله جعل لأخي علياً A فضائل لا تُحصى كثرة، فمن ذكر فضيلةً من فضائله مقراً بها غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر، ومن كتب فضيلةً من فضائله لم تزل الملائكة تستغفر له ما بقي لذلك الكتاب رسم، ومن استمع إلى فضيلةٍ من فضائله غفر الله له الذنوب التي اكتسبها بالاستماع، ومن نظر إلى كتابٍ من فضائله غفر الله له الذنوب التي اكتسبها بالنظر"(4).
أوليس جديراً بتلك المناقب العظيمة، التي ملأت الخافقين، المشرق والمغرب، وما بينهما وما فوقهما، أن تملأ الأصغرين، القلب واللسان، والأكبرين، العقل والهمة، فإذا التفكّر فيها، مقروناً بالصلاة على أم أبيها B وأبيها، وبعلها وبنيها، والسر المستودع فيها، التي تهدم الذنوب هدما، هو كفارة للذنوب التي جناها بالفكر؟! وأي ذنبٍ لم يبدأ بفكرة، ولم تجنح به شهوةٌ أو سَورة؟!
وهل يمكن للعقل إن طهّره التفكّر في فضلهم، أن تدنّسه أية فكرة أخرى؟!
كلا وحاشا، بل هم الطهر كل الطهر، للنفس والقلب والفكر، ولئن احتلّ عشق الحق لبّ اللبّ، فلا سلطان لهوى النفس والشيطان على ذلك القلب، الذي عرف من أي بابٍ يدخل جنة الرب، ويعتصم بالعروة الوثقى من كل ذنب، وكيف لا يفعل وهم من عصم الله بهم عباده من كل ذنب، "ومن أصل كل معصيةٍ وأول كل ذنب، من حب الدنيا" الذي يفسد العمل ويطيل الأمل، فـ "حب الله وحب الدنيا لا يجتمعان في قلبٍ واحد"، ولئن كان القلب منبتاً لتلك البذرة المباركة، حب آل محمدJ، قولاً وفعلاً، فإن شرايينه وأوردته تغدو لتلك الشجرة الطيبة وِرداً ونَهلاً، يغذيها بدمائه، ويستجديها فيض عطائه، فإذا هو ينصرها وينتصر بها، ويحلّ فيها وتحلّ فيه، تسكب في وجدانه كل معانيه، وتتجسّد في كيانه، لترسم له نحو الله درباً يهديه، فلا يحيد عنه ولا يرى الحق إلا في مراميه، فهو صراط عليّ A، وعليٌّ هو الممسك بمبانيه، تماماً كما أمسك يوم خيبر بذلك الباب الأكبر، حينما وضعه فوق الخندق فقصّر، فظل قابضاً على زمامه حتى عبر عليه جند الله، ففتح الله على يديه، وهو فاروق الحق والباطل، وهواه جُنّةٌ لهاويه، ينجيه من كل ضلالٍ وتيه: "وأن هذا صراطي مستقيماً فاتّبعوه ولا تتّبعوا السبل فتفرّق بكم عن سبيله، ذلكم وصّاكم به لعلكم تتّقون".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) (آل عمران: 191).
(2) (الذاريات: 56).
(3) (الكافي - الشيخ الكليني: ج1/ ص15).
(4) (الأمالي، الشيخ الصدوق: ص201).
(5) (الأنعام: 153).