محاورة مع كتاب.. (اتجاه الدين في مناحي الحياة) لسماحة السيد محمد باقر السيستاني (دام عزه) القسم 19
18-09-2019
علي الخباز
- هل نهى الدين عن الافراط في الاستجابة للرغبات المادية..؟
الكتاب: نعم، نهى الدين عن الافراط في التعلق في الأمور المادية، والمراد بالإفراط المبالغة في السعي ورائها بما لا ينسجم مع موقع هذه الحياة في الوجود، ويتجاوز به المرء حدود الحكمة والفضيلة من اجلها، فإن هذه الرؤية بطبيعة الحال تقتضي أن يلاحظ الانسان الجوانب التربوية في الاستجابة للرغبات الافراط يلهيه عن استذكار الله والدار الاخرة.
وإن هذه الرغبات في الانسان غير محدودة بحدود الحكمة والفضيلة، فإن عامة المآسي التي تعني منها الحياة البشرية ترجع الى ظلم الانسان لأخيه الانسان، اندفاعاً من الاستزادة في هذه الرغبات، وان كل نعمة يجدها الانسان في هذه الحياة، يتاح له ان يتنعم بها، فيها او يستثمرها للآخرة، فوقت الانسان مثلاً يمكن أن ينتفع به في الاستراحة كما يمكن ان يصرفه في الاستزادة من الطاعات بالعبادة واعانة الناس، ويؤدي بالإنسان الطموح الى أن يسعى الى استثمار ما يتأتى له من النعم، التي أوتيها للآخرة وعن الاستجابة للرغبات، وأما ما عدا ذلك فقد دعا الدين الى الاستجابة المعتدلة لها.
- يعني هناك استهانة من الدين بالسعادة المادية؟
الكتاب: ترغيب الانسان عن الحياة الدنيا والتزهيد فيها، ويلاحظ ذلك أيضا في زهد السيد المسيح A، وكذلك النبي J، والامام علي A وكثير من الصالحين الذي كانوا يعودون أنفسهم على الرياضات البدنية القاسية، ولقد أكثر الامام علي A في خطبه من التزهيد في الدنيا وتحقيرها وذمّها، مقتفياً في ذلك اثر ما جاء في القرآن الكريم.
إن هذا الذم لم يكن بداعي الترغيب الى الاعراض المطلق عنها، بل بداعي الحث بما يناسب كونها معبراً لا مقصداً، فينبغي على الانسان ما استطاع أن لا يتلهى بها ويجهد في استثمارها، ويهتم اهتماماً بليغاً في السلوك الحكيم والفاضل فيها، قال الامام علي A وقد سمع رجلاً يذم الدنيا: (إن الدنيا دار صدق لمن صدقها ودار عافية لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزود منها، ودار موعظة لمن اتعظ بها، مسجد احباء الله، ومصلى ملائكة الله، ومهبط وحي الله، ومتجر أولياء الله، اكتسبوا في الرحمة، وربحوا فيها الجنة).
- مادام رزق الله مكفولاً.. فلماذا نعمل اذن..؟
الكتاب: في الواقع ان فهم التزهيد عن العمل والحذر من هذه النصوص نشأ عن فهمها على غير وجه، فما ورد من أحاديث الارزاق فلم يقصد به ان رزق المرء مكفول من دون حاجة الى العمل والتكسب، اذ لو كان الامر كذلك لما حث الناس حثاً شديداً في الاحاديث عن التكسب والعمل.
وقد نهي في الإسلام عن ترك الأسباب الطبيعية في التوصل الى المقاصد الصحيحة، كما قال النبي J لرجل ضاع بعيره؛ لأنه لم يربطه توكلاً على الله تعالى: (اعقِلْ وتوكلْ). ان الله سبحانه تعالى قد جعل في نفس الانسان من الرغبات ما يدفعه الى البحث عن أسباب الرزق، وجعل في الحياة من الإمكانات ما يجد به المرء رزقاً اذا طلبه وبحث عنه.
وكان الباعث على التذكير، تقوى روح الامل في الانسان حتى لا يعرض عن الزواج او العمل على أساس انه لا يجد رزقاً، فأريد تفهيمه بأنه اذا تزوج وجد له رزقاً مُقدراً وفق سنن الحياة، اذ تنفتح له بالزواج أسباب الارتزاق من حيث زيادة الدافع النفسي على الجد في البحث والعمل ورفع الإهمال والتكاسل، وتوسع ارتباطات الانسان مما يساعده على تحصيل مدخل للارتزاق، اصلاح روح الحرص في الانسان، حتى لا يبالغ في طلب الرزق فيسلك في تحصيله الطرق المحذورة والوضيعة او يغلب عليه حتى يصير هاجسه الأول في هذه الحياة، ويتشاغل به عن الهاجس الحكيم الذي ينبغي أن يكون هو الهم الأول في حياته، من خلال تحري الفضيلة وأداء الحقوق وتذكر الله سبحانه تعالى والدار الاخرة من تأمل.
ولا ينبغي للإنسان أن يجعل همه في الحياة تحصيل تلك الرغبات والازدياد منها؛ لأن كفافه منها مضمون نوعاً بقوة الحافز اليها، بل ينبغي أن يجعل همه الأول مراعاة الحكمة والفضيلة لاحتياج هذه الحافز الى التنمية والرعاية ليفي بكفاف الانسان، فهو قلق دؤوب اتجاه تحصيل أسباب السعادة المادية، وزاهد مطمئن اتجاه تفصيل موجبات الحكمة والفضيلة، فهل كل سعادة هي سعادة مادية، والسعادة ليست مقصورة على السعادة المادية بل منها سعادة نفسية بل هي حقيقة السعادة.
إن الشعور السعيد اذا حصل لم يضر الانسان فقدان المبدأ المادي لهذا الشعور، هل ان كل متعة مادية فهي توجب السعادة..؟ قد يتراءى للإنسان ان كل ممارسة مادية تعطي شعوراً باللذة والراحة، فهي تمثل سعادة للإنسان وما ينبغي للإنسان هو ان يسعى الى الاستزادة من المادة ما تيسر له حتى ينال درجة اكبر من الراحة واللذة، فليست كل مادة تورث السعادة، ولا كل سعي الى تحصيل المادة سعي مصيب وحكيم.
وقد لوحظ ان التمتع بالمادة، وتنشئة تلك العوارض على التأثير السلبي للاستمتاع المادي، في إحدى المناحي الثلاث اما في ادراكه السليم للحقائق او في رعايته بمقتضيات الحكمة او في استجابته لقضاء الضمير الأخلاقي وفي هذه الحالات تعود النعمة نقمة على الانسان وحالات تأثير النعمة في عدم ادراك الحقيقة عديدة.
ان المترفين في الأمم لم يستجيبوا لنصحهم وهي عدم صلاحية الأصنام فعلاً للعبادة، وقد يتوقع ان يكون ضعف الايمان في هذا العصر في بعض المجتمعات ناشئاً بعض الشيء عن حالة الترف التي تعيشها بالإمكانات الهائلة الحديثة، ولو اتفق فقدان تلك الإمكانيات فجأة لعادوا الى ما اعرضوا عنه من الايمان سريعا، وان يستغرق المرء ما يعيشه من أجواء الراحة المادية، فلا يدرك الأخطار المحدقة به، ولا يلتفت الى مؤشراتها، فيؤدي ذلك بالمرء الى الوقوع في شقاء كبير يود معه لو انه عاش عيشة متواضعة، وهذه حالة شائعة ومن ابرز مصاديقها بعض الرؤساء المستبدين الذين يخلدون الى الراحة، ولا يلتفتون الى الخطر المتوقع من جهة تراكم المظالم وانفجار الوضع.