وفاءا للعهد
18-09-2019
حنان الزيرجاوي
مرّ وهو يحمل رايته التي اعتاد كل سنة أن يحملها، وهو في طريقه لزيارة أبي الأحرار الإمام الحسين A وهو الذي لم يفارق هذه الزيارة، ولا ترك المسير على قدميه لتلك المسافة الطويلة، وهو يشحذ همم أصحابه ورفاق طريقه.
يسير في تلك الطريق المتعرجة الطويلة بهمة عالية، وكان مثالاً للآخرين، إذ كان دأبه قراءة القرآن الكريم الذي حفظ بعض أجزائه أو يردد بعض الأدعية المشهورة أو يكثر من الصلاة على محمد وآل محمد.
هذه الراية التي يبدو عليها القدم، وقد تبدّل لونها قليلاً، لفتت نظر أحد السالكين لهذه الطريق، ليس فقط الراية بل تصرف هذا العاشق الولهان ولبكائه إن سمع ناعياً للحسين A وتعلقه بهذا البيرق واحتضانه له.
فأخذه الفضول وبدأ يراقبه بل لا يفارقه وكأنه رجل أمن يراقب مشتبها به، يراقب كل حركاته بل اصبح رفيقاً لدربه دون أن يكلمه، فأصبح ينزل أين ما ينزل صاحب البيرق ينام يستيقظ يجلس يسير هو معه.
وفي إحدى محطات الطريق، رآه انحرف قليلاً عن الطريق واتجه صوب صورة كبيرة بدأ يدقق النظر الى الصورة ومال معه حيث مال، وإذا به يرى نفس هذه الراية يحملها صاحب الصورة وهو شاب في مقتبل العمر .
رأى صديقه الذي لا يعرفه ولم يكلّمه يتجه صوب تلك الصورة ليرسم عليها قبلة وتمتم بكلمات لم يسمعها ثم انسالت منه الدموع، لتغرق لحيته مع نشيج أخذ يسمعه من يمر بقربه ثم مسح تلك الصورة بذلك البيرق، وكأنه يقول لصاحب الصورة: الثمها الثمها.
ومسح تلك الدموع التي ظننتُ أنها تحرق خديه بتلك الراية وودّع صاحب الصورة وعاد إلى طريق المسير.
هنا تملّكني الفضول ولم أستطع صبراً على السكوت ودنوت منه سلمت عليه .
فرد السلام بأسلوب مهذب جميل .
أتسمح لي بمصاحبتك لأكون لك رفيق طريق.
التفت اليّ باسما وهو يقول: كلنا في رفقة في طريق الجنة.
بادلته الابتسامة وقلت له: يعني هذه موافقة منك لصحبتي.
هز رأسه بالإيجاب مع ضحكة خفيفة: يسعدني ذلك.
فتجرأتُ أكثر بعد أن صليت على محمد وآل محمد وقلت له: هل تسمح لي بسؤال لعلّي أشبع فضولي؟
فأجابني مع التفاتة رقيقة: نعم.
رغم اني أعلم عما تريد أن تعرفه.
فابتسمت مع ارخاء لعيني: نعم نعم..
هذه الراية او كما يطلقون عليها البيرق عند العرب هي الراية التي رأيتها مع صاحب الصورة الذي وقفت امامه.
سألته باستغراب: هي نفسها؟
:ـ نعم هي نفسها.
وسأروي فضولك واخبرك بقصتي وقصتها.
صاحب هذه الصورة رفيق دربي منذ الطفولة وبعد سقوط النظام الصدامي المجرم حيث بدأت جموع الزائرين بالمسير الى قبر أبي عبد الله الحسين A خرجنا أنا وإياه وأَقسمَ أن يحمل هذه الراية في كل سنة .
ومرت ثلاث سنوات ونحن على هذه الحال، وفي السنة الرابعة وبينما نحن في طريقنا كالعادة تأخرت عنه قليلا في حاجة لي وبينما انا اريد اللحاق به واذا بناصبي عفن فجّر نفسه وسط جموع الزائرين، وسقط من سقط شهيداً او جريحاً، فأسرعت لا أكاد أرى الأرض التي اسير عليها لأتفحص إخواني الزائرين الذين أصابهم الانفجار .
تفحصت واذا بي أرى راية رفيق دربي قد سقطت على الأرض اسرعت نحوها لأجده في أنفاسه الأخيرة..! نظر اليّ وهو مبتسم وأمسك بيدي بيده الضعيفة التي لا تكاد أن تستقر وهو يقول لي: هذه رايتي أمانة عندك، فهل تعاهدني على حملها كل سنة؟
فأجبته بعيون اغرورقت بالدموع: نعم نعم أعاهدك..
فنطق التشهد وفارقَنا مبتسماً.
وها أنا ذا على عهدي مع رفيق دربي، ولن أخلف ذلك العهد معه.
يقص عليه وهو يبكي ولم أتمالك نفسي من أن أشاركه البكاء بحرقة وألم.
وعرفت معنى الوفاء بالعهد بأبهى صوره .
أيمكن أن نتصف بالإيمان ونفي بعهودنا وخاصة عهدنا مع الله تعالى عهدنا مع إمام زماننا ...