الحزن المقدس ... وكربلاء

14-09-2019
د.علاء مشذوب
في عاشوراء، لا يوجد جدار لا يرتدي السواد اعتزازا، فالأسود هو لون الفرح في عاشوراء، حيث تتوشح رؤوس الأطفال بنذورها البيضاء، يلبس الرجال، لباس الفرح، وهم يزفون أنفسهم قرابين للحزن، فالأسود يليق بكربلاء، كما كربلاء تتألق بلونها الأسود، وهو أن كان سيد الألوان؛ لأن كربلاء تلبسه وليس لعنوان آخر.
آه يا كربلاء، في مثل هذه الأيام.. الرؤوس مخضبة بالتراب، كل الرؤوس في حضرتك مخضبة بالحناء، والدموع المتدفقة من محاجر العيون، تسمد من عطائك كل هذا الحنين، واللون الأسود عند بابك يتوسل القبول، ليكتسي من حزنك عاطفته ورمزه، من كبريائك ألق التميز والانتصار، انت من كل عام وبكل هذه الهيبة تعلنين رقصتك المجروحة على سلم الحزن، وأوتار سعدك تعزف ألم الحزن بصوت قيثارة.
قدور النذور تحت لهيب النار من حرارة جرحك تكتسب طعم الحياة، وقوة النار من لهيب قيظ عاشوراء تستمد الكبرياء، برودة الماء من عطف فقرائك يكتسب محنّته، يتوسل الطاعمين السيّارة أن يجودوا بأفواههم ليقضموا جمرة، أو يشربوا من لهيب الحزن بسمة ظمأ، سبيل، سبيل، سبيل، كل التكايا في كربلاء تصيح سبيل، وهم في كل هذا ينظرون جود محبتك، ويقولون: لن نحيد، سبيل، سبيل، سبيل، موائد الرحمن على طول الطريق باسم مخضبها تقدم الطعام، وباسم ساقي عطاشى كربلاء تروي الجريح.
عند كربلاء يصطف الجميع منحني الرأس إجلالاً لتربتها، وفي فضاء محبتها التي يتسع الجميع ترنو بصائرها، دون تميز، كلنا في يوم كربلاء نرتدي كلمات الحزن والحناء دون وجل، وعبير عطر رجالها يفوح على الجميع.
آه يا كربلاء، في مثل هذا اليوم من كل عام، لا لباس للنوم ولا سلطان، مكايل الملح تغرف من مقلنا حباته، وفراق الطمأنينة لم يزدنا أسى، فجرحك يوغل في نمارقنا، يكتب أسمه على ملابسنا، كلنا معذورون في كربلاء فجرحها أكبر من كل الظروف، هي مساحة دون حدود، وألم يتعدى كل الأجساد، في كربلاء نواح النساء، يخرج من كل الشموع، أعلم أن كربلاء حاضرة بكل تفاصيلها بضمائرنا، ولأنها كربلاء كان القمر يغار من اسمها.
على بابها الشرقي من كل عام، وعند الظهيرة بعد الأذان، يتجمع الملايين من كل صوب، حافي الرؤوس والأقدام، ليبدؤوا بانوراما الحزن، تخفق الرايات وسط الجموع، وتزمجر الحناجر بين النخيل، والنساء كل النساء على حافتي العزاء تلطم الرؤوس، يبدأ النداء من كربلاء: أن لا حسين غير حسين كربلاء، يخرج الفارس على حصانه الأبيض ليتقدم الجميع، تهيج الجماهير معلنة بيعتها، تزحف الجموع بصوت جهير مناديا كربلاء، لترفع العراق على اكفة الرؤوس، فلا رأس بعد العراق سوى كربلاء.
يندب الجميع، غيابه المقيت، في يوم الطف الجريح، ولون عاشوراء من كل عام يعيد قصة حزن ولون عشق بين عابد وعبيد، يموج الصوت في فضاء السماء، فترتج الغيوم، بسقفها المنون، على رؤوس الجموع، تنادي المروج في كل آن، أن لا حسين بعد اليوم من جديد، فكل الحزن عند باب وفائه يتأخر، وكل قصة عشق بعد هوانه تتبعثر، آه يا كربلاء، في مثل هذا اليوم من كل عام، الجموع ومكبرات الصوت تصيح، ليحضر الجميع، وتنشر الشموع، ولتكتب النجوم، قصة حزن جديد، عن ولادة الأسى، والحزن المقدس.
لا يوم كيومك كربلاء، ولا حزن بعد حزنك كربلاء، لباسك مدينتي لون العرس في ساعة حزن، وساعة غياب في لحظة حضور، شوارعك مخضبة بلون الماء وهي تحتضن اقدام زوارها، بحنو أمّ تستقبل جائعيها، الملهوف والعطشان وصاحب حاجة، المريض والمصروع وطالب حاجة، عندك سيدتي يجبر المكسور، ويرد الظالم وتلبى أحلام الفقراء، في حضرتك تولد العاقر.
مسرحيو كربلاء، استمدوا من الحر الرياحي إباءهم، فكانوا على حذوه يتعلمون الإخلاص، ومن وحي شهامته ومروءته راحوا يصيحون على منصة المسرح، أننا أول الباذلين أنفسنا لمهجتك، وأول المعلنين لصوتك، أنت مخرج كل أعمالنا، فلا بعد عينك من أبطال، ولا بعد أرضك يا كربلاء من ساحات.
عندما تولي الشمس هاربة من نشيج النياح، حيث الأجساد رؤوس بلا أقدام، وعندما ينتهي الجميع من الركض البطيء، إحياء لذكرى الشهيد، تفتر الحماسة، بعد عشرة أيام من النحيب، لتبقى النساء وسط الرؤوس المقطعة، والخيام المحرقة، تلوذ بأرواحها، تتفقد أختهم الكبيرة زينب الجريحة، باقي العائلة والرعية.
في كربلاء، في ليلة الوحشة، توقظ النساء شموعها الحمراء، في طقس سموه (شامي غريبون)، فيا أيها الطقس الجليل بغربته، أيقظ لنا الحزن بكل مأساته، وأعلن على مرأى الجميع أنك عدت بعد كل هذا الحنين، بدم جديد نابضاً بالحرية والعيد.
في كربلاء وفي مثل هذه الليلة من كل عام، تتوافد الجموع، من الفرس والترك والهند، من الأعراب والعرب والنبط، لذلك عند العزاء تجد كل فرقة على شاكلتها تنوح، كما الطيور تغرد حيث تشاء دون عناء، منها من يضرب الجيوب، ومنها من يخدش الخدود، منها من يضرب الزنجيل.. لذلك كانت الخانات والفنادق، الحسينات والجوامع، كانت كل كربلاء مبيتاً للزائرين، تضرب الصنوج وتقرع الطبول.
كربلاء يا سر إلهي لم يكشف بعد، يا جنة عدن، عطر ترابك يفوح قداحاً، سينوغرافيا حزنك يشي بندامة التاريخ؛ لأنك سرّة الأرض، حيثما تدور حولك أنت مركزها.
ما يميز كربلاء زهد أهلها، فماء السبيل والسكن المجاني، وطعام الزائر والمسكين والفقير لا ينقطع أبداً، في الشتاء عندما يشتد صوت البرد توزع على أجساد الزائرين الأغطية مجانا ليدفئوا وجعهم، فحيثما دار عاشور مع الفصول تدور مجانية التوزيع.
السرادق المنصوبة على أسفلت الشوارع ترحب بمن ليس له موكب، تستقبل كل تائه أو فقير، الشوارع مثل الأهالي زاهدة بفراشها، أرصفة الطريق وسائد للمتعبين، وأرائك للجالسين، أعمدة الكهرباء وجذوع الشجر أوتاد لخيمهم، كل شيء في كربلاء عطاء.
في كربلاء، الناس والشجر والحجر كل يجود بما أمكنه، يتسابقون في خدمة الجميع، كل تلك الطباع معجونة بدم كربلاء، دم الحسين الذي انساب في جذر الأرض ليختلط بالماء لينبت ثمراً في بطون الأشجار، ينبت طيبة في قلوب الساكنين، ينبت محبة في هوائها الطلق الذي ما إن يستنشقه الغريب حتى تسحبه من حيث لا يدري الى أرضها من جديد.
في كربلاء وفي ليالي الحزن العاشورائي المهيب، الشموع البيضاء في (شامي غريبون) أخذت ضوءها من نجوم السماء، ففي هذه الليلة من كل عام تأتي النساء لتشرب من صدر الحزن حليب الصبر لتزقه لأبنائها ترياق الوجود.
من كل عام في ليلة الوحشة (شامي غريبون)، تتجه النساء الى مخيم الإباء لتعزي أم المصائب زينب، فتشعل الشموع وتذرف الدموع، وتنذر النذور، في حضرة المخيم لا صوت يعلو على صوت الشموع، الشموع البيضاء تضيء وحشة الحضور، بنورها الأحمر، تقف الشموع إجلالاً لصمود الهاشميات، تذوب في خجلها عرفانا بالذنب، وإيمانا بأنها تواسي الجروح.
ليلة العاشر من محرم، لا تنام النساء، وقدور الطبيخ لم تفتر بعد، الهريسة والبرياني، واللفات السفري، توزع من أزقة الحرمان الى شوارع السخاء بما تجود من الزائرين، يتوسل الطباخون سخاء الزائرين أن يقضموا من ألمهم حفنة رز، لقمة سائغة تشفي الجروح، لترد لوعة الذنب على ضياء الشموع.
كربلاء في مثل هذه الليالي من كل عام أرض حرام، يمشي الجميع على أطراف أصابعه حتى لا يوقظ الجراح في الأجساد المهشمة، الرؤوس المقطوعة في جياد الوحوش، والأكف المفصولة عن الأيادي متفرقة على الرمضاء تنزف حياء.
نساء الرجال من الهاشميات والأنصار في مخيم الانتصار، أسرى تحت سوط العبيد، كلهن يصرخن نريد ماء، فالليل على استحياء يلم ظلمته ليخفي إباء النساء، ولكن ابن أبيه ومن معه يشعل المشاعل ويحيط الأماكن ليضيء قبحه، ويعلن السبي والانتصار على دين محمد وأهل بيته من الأحياء.
الأطفال تلوذ بحشمة النساء، تكبر العباءات لتكون خيمة تجمع الحرائر من وحشة الكلاب واللصوص، هزال المريض – زين العابدين - يشتد في عضد زينب، فتلفه بعصابة رأسها خوفاً من الانقراض، وتضمه خلف ظهرها لتتصدى للجموع بصدر رجل وسيف شجاع، بصوت بلال، ورمح وحشي وعنفوان علي.
في الشام وفي حضرة يزيد، حيث زينب مثل ناقة حسناء، تدافع عن دين جدها، لتكسر هيبة سلطان وسط وعاظين ومتملقين، تدوس بمداسها الشريف أنفة عزه الواهم، المتلبس بغطرسة الشيطان، تخبره أن يكد كيده، لكنه لا يستطيع أن يمحو ذكرها ودين جدها ابدا.
ومن قبلها أنشد يزيد عندما جيء برأس الحسين ووضع بين يديه في طست، وجعل يضرب ثناياه بمخصرة كانت في يده وهو يرتجز القول:
ليت أشياخي ببدر شهــــــدوا
جزع الخزرج من وقع الأسل
لأهلوا واستهلوا فرحـــــــــــــــا
ثم قالوا يا يزيد لا تشــــــــــــل
قد قتلنا القرم من ساداتهم
وعدلناه ببدر فـــــــــــــــــاعتدل
لعبت هـــــــــــــــــاشم بالملك فلا
خبر جـــــــــــــــاء ولا وحي نزل
لست من خندف ان لم انتقم
من بني احمد ما كــــــــان فعل
كربلاء متى يبلغ جرحك سن الرشد، حتى ينفصل عنك الحزن، أتراني أهذي وقد توهمت أنه من الممكن أن ينفصل الحزن عن كربلاء، أو كربلاء عن الحزن. أم أنهم أوهمونا هكذا. وقد كنت من قبل البيت المقدس الذي يقيم الأفراح والأتراح.
في شهر عاشور، يشرع أصحاب التكايا بنصب أطلالهم، فيعمروا الخيام، وفي الأول من محرم، توشح كربلاء بالسواد. ومثلها أبنائها ونسائها، في اليوم الثالث تخرج أفواج العزاء من أزقتها الضيقة.
تتصارع الألوان، وتتسيد الواجهات والقلوب، الكلمات تقطر دماً، والجموع تنادي: (يا ليتنا كنا معكم لنفوز فوزا عظيما).