ثورة الحسين بن علي ع (61هـ) قراءة أكاديمية
14-09-2019
د.محمد تقي جون
ثمة أمور كثيرة دعت إلى وضع إضافات إلى مقتل الحسين منها: ارتباط مقتل الحسين بمظاهر العزاء والنياحة منذ أمر بها معز الدولة البويهي في عاشر المحرم من سنة (352هـ)(14)، وظهور طبقة من الشعراء والنائحين والنائحات جعلت المقتل باباً للرزق..!
ويذكر محمد مهدي شمس الدين انه اتسع المجال للتزيد في رواية الأحداث، والتساهل في قبول الروايات التي تؤدي إلى إثارة العاطفة، وقبول استنتاجات بعض الكاتبين في المقتل على أنها وقائع تاريخية(15) وبالمقابل ظهر علماء أجلاء دعوا إلى تنقية المقتل مما لا علاقة له بالثورة الحسينية: كالسيد محسن العاملي وآية الله المطهري والسيد عبد الرزاق القرم الذي أنكر وجود أشياء في المقتل مثل (عرس القاسم)؛ لأنَّ القاسم كان وقتها صبياً(16).
ولابدَّ من توضيح حقيقة مهمة في الثورة الحسينية، وهي إن الحسين جاء يطلب الانتصار وليس الشهادة فقط، كما يوضح ذلك سير الأحداث منذ ترك مكة وحتى آخر ساعة في القتال، ولو انه طلب الشهادة دون النصر لما أرسل مسلماً، ولا فاوض، ولاختار أقصر الطرق إلى الشهادة، وهو ما وجدناه عند حفيده الإمام جعفر الصادق، فقد احرق رسالة أبي سلمة الخلال؛ لأنه لم ير أهل فارس شيعة له، ومن ثمَّ لا يستطيع تحقيق النصر بجند غير مخلصين, ونجد ذلك لدى الثوار العلويين، فكلهم ثار بعد الوثوق من الانتصار وليس الشهادة، ربما يشذ عن ذلك التوابون الذين طلبوا الشهادة دون النصر.
ولم تحسم المقاتل موقف الحسين بعد علمه بمقتل مسلم بن عقيل؛ فهو بين الإصرار على الاستمرار والتردد في الرجوع. وفي الحقيقة إن سلطة الكوفة لم تترك له الخيار، فقد كانت مهمة الحر حجزه عن الرجوع وحصره والإتيان به إلى حيث أرادوه أن يكون، أي انه علم بمقتل مسلم حين دخل في (الأرض الحرام). ولو فكر الإمام بالقتال لقاتل الحر، ولكنه حتى وقت التقائه بالحر لم يفكر بالقتال منتظراً اليقين الكامل بنفسه.
ويكشف حديث الحسين مع أخته زينب في ليلة الانتظار انه لم يضع في نيته الحرب قبل هذه الليلة البتة، فبعد تأففه وهو يعالج سيفه مع رجز قاله وكرره مرتين أو ثلاثا (يا دهر أفٍ لك من خليل...) سمعته زينب فأقبلت إليه باكية متفجعة فقالت: "بأبي أنت وأمي يا أبا عبد الله استقتلت(17)! نفسي فداك"(18).
فأجابها، مبيناً انه حمل بلا رغبة منه على ذلك بقوله متمثلا: "لو تُرك القطا ليلا لنام"(19)، فقالت: "إنما تغصب نفسك اغتصاباً فذاك أطول لحزني وأشجى لقلبي" فراح يعزيها بأقوال كثيرة.
فهذا المشهد ممثلاً بإعلانه الأسف واعترافه باضطراره إلى الحرب وظهور عويل النساء بعد معرفتهن بأن الحرب واقعة لا محالة، ومكاشفة الإمام أصحابه وطلبه منهم المغادرة، كل هذا يدل على انه تفاجأ بتحول الأمور والوصول إلى خيار الحرب، وهو حتماً يفسر جلبه عائلته، وما كان ليعرضها للهوان لو علم بالحرب.
الرسائل المزورة:
كان معاوية مدركاً خطر الحسين على الدولة الأموية بوصفه المرشح الأقوى من بعده حسب أحد بنود صلحه مع الحسن (يكون الأمر بعده شورى بين المسلمين)(20)، لذا أوصى ابنه قبل موته بالتخلص من الحسين؛ لأنه سيظل شوكة في عين استقرار دولته وهاجساً مقلقاً له، كما تخلص هو من أتباع الإمام علي المقلقين: كالحسن بن علي ومالك الاشتر بـ(السم المعسَّل)، فمعاوية يدرك أن الحسين سيخطط..! وهذا يتطلب السرعة في إيقافه، بل قتله بوصف القتل الحل الوحيد مع الإصرار الحسيني الثابت، وهذا يعني عدم إهمال الحسين بل السعي إلى تطويقه منذ الأيام الأولى لحكم يزيد.
ونحن واثقون من أن خروج الإمام الحسين من المدينة إلى مكة كان للتخطيط للثورة على يزيد الفاجر، واختار مكة؛ لأنها حصن منيع لا يستطيع يزيد أن يطوله فيها، وهي تعني مهد الإسلام والمركز الاستراتيجي للثورة والدولة، وقد اعترف غريمه عبد الله بن الزبير للحسين بأنه في مكة غير مدافع عن الخلافة(21).
ويؤكد تخطيط الإمام الفعلي للثورة قول ابن عباس لابن الزبير بعد خروج الحسين من مكة الى العراق: "قد خرج الحسين وخلت لك الحجاز"(22)، أو: "قرّت عينك يا ابن الزبير... هذا الحسين يخرج إلى العراق ويخليك والحجاز"(23) وكان عبد الله بن الزبير يتخذ هو الآخر مكة ويخطط للثورة، وهذا يؤكد أن الحسين كان يخطط للثورة بالفعل، وأكدت وقعة الحرة عام 65هـ ذلك وترجمت جهود الحسين التي تركها في مكة حين غادرها إلى العراق.
فلماذا خرج الإمام الحسين من مكة؟ وهل العراق أفضل من مكة مكاناً للثورة؟
نقترح أن يكون يزيد أرسل (رسائل مزورة) الى الحسين ليجتذبه إلى العراق ويوقع به بعد علمه بتخطيطه للثورة، أو تأكده من ذلك، وقد كتبها عن العراقيين دون علمهم، بتواقيع شرفاء الكوفة ورؤسائها، أو انه دجّن بعض أشراف العراقيين لمصلحته فاستكتبهم؛ لأن الحسين قبل المعركة صاح بأشراف الكوفة:
"يا شبث بن رِبعي ويا حجار بن أبجر ويا قيس بن الأشعث ويا زيد بن الحارث، ألم تكتبوا لي في القدوم عليكم، قالوا: لم نفعل!"(24). كما أنكر الرسائل الحر بن يزيد الرياحي قائلاً للحسين: "والله ما ندري ما هذه الكتب التي تذكر..!"(25)، وقد عقد ابن زياد لواءً لشبث بن ربعي، وكان معه في القصر عشرون من الأشراف(26)، ووصفهم أبو مخنف كألعوبة بيد يزيد الذي راح يسخِّرهم لاقتياد العراقيين للحرب ضد الحسين كما في قوله: "اشرفوا على الناس فمنّوا أهل الطاعة الزيادة والكرامة، وخوّفوا أهل المعصية الحرمان والعقوبة، وأعلموهم وصول الجنود من الشام إليهم"(27)، والذي يؤكد أن العراقيين لم يراسلوا الحسين، هو أنهم لم يقاتلوا معه البتة، بينما قاتلوا مع الثوار الباقين وان نكصوا بعدها، فقد قاتلوا مع سليمان بن صرد والمختار وزيد وأبي السرايا وبقية الثوار، وذلك؛ لأنهم حشدوا فاستعدوا.
وكانت فكرة الرسائل حمل الحسين على المجيء إلى العراق؛ لأنه في نظر يزيد (ثورة مرتقبة)، ومباغتته خير من الانتظار ليزداد أنصاره وتزداد قوته، ولعل الحسين وضع خطةً أخرى قبل أن تأتي الرسائل، وأرى انه فكّر بالسيطرة على الحجاز (مكة والمدينة) وعزله عن الدولة الأموية لإسقاطه دينياً، ثم الزحف لاحقاً إلى العراق فالشام، وإذا كان هذا الاحتمال صحيحاً فان (الرسائل) كانت خطة استباقية لإلغاء خطة الإمام وجعله يختار العراق نقطة انطلاقه، وهي المنطقة الأضعف، وقد شهد الحسين خذلان العراقيين لأبيه وأخيه أكثر من انتصارهم لهما، وإذا لم يفكر الإمام بهذا الاتجاه، فان يزيد فكّر طويلاً فأرسل الرسائل لجلبه إلى العراق فقتله، حيث لا ناصر له فالعراق في قبضة الدولة.
وبهذا الفهم ستكون الرسائل أداة لتحريكه من معقله (مكة)، ونستطيع التأكد من ذلك بأن العراقيين لم يتح لهم الاتصال بالحسين والتخطيط عقيب وفاة معاوية وانتقال الحكم ليزيد، بل في هذا الوقت الضيّق والحرج ابتدأت الدولة الأموية تحاصر الحسين لإسقاطه أمام المسلمين بأخذ البيعة منه ليزيد.
إذن، الرسائل المزورة جعلت الإمام يلغي خطته التي خافها الأمويون منذ معاوية، ويباشر خطة بديلة تحقن الدماء أو تقلل سفكها لذا جلب الإمام معه جيشاً متواضعاً توقعاً للحرب (البسيطة)، وجعل احتماله الأكبر وقوع ثورة شعبية عارمة في العراق بمجرد دخوله، حيث يتم طرد الوالي الأموي، وبعدها يتم الزحف الجاد على الشام في ظل عدم أهلية يزيد والنقمة الشاملة عليه من الأمصار الإسلامية، وثم قتل يزيد والإدالة منه، إلا أن الإمام لم يكن واثقا جداً من العراقيين لذا أرسل ابن عمه مسلماً ليتأكد.
كان ممكناً حدوث ذلك، فيطرد العراقيون الوالي الأموي، ويتم إعداد جيش جرار من المتطوعين لصد الجيش الشامي الذي ستعده الدولة حتماً، وبعدها الزحف إلى الشام وخلع يزيد وقتله بوصفه الخارج على إمام عصره..! كان ممكناً جداً، ولكن الذي أسقط كل تلك الاحتمالات هو أن الرسائل مزورة، وأن العراقيين لا علم لهم بشيء إلا النقمة (المبلوعة)..!
أهل الكوفة:
لم يلق مسلم بن عقيل في الكوفة شعباً ينتظره كما جاء في الرسائل المرسلة، ولم يكونوا بلا إمام كما زعموا فيها، بل وجد دولة وحكومة قوية، وحين اجتمع به نفر من شيعة علي دار بينهم حديث عن سبب مقدمه نستطيع قراءة ذلك في كلام المجتمعين، قال أحدهم لمسلم:
"فإني لا أخبرك عن الناس، ولا أعلم ما في أنفسهم، وما أغرك منهم!! أحدثك عما أنا موطن نفسي عليه، لأجيبنكم إذا دعوتم"(28). وهذا يدلل على أنَّ الموضوع طرح تواً عليهم، إذ يفترض أن الدعوة موجودة، بل هم الذين دعوه، ولو كانت الرسائل حقيقية لوجد مسلم جيشاً بانتظاره لا يعوزه إلا قائده المنتظر.
ووجد مسلم أن المطلوب منه العمل من البدء لتهيئة الكوفيين للحسين ليقودهم إلى النصر..! ولم تكن طبيعة مقدمه تتناسب مع هذا، فالتهيئة للثورة تتطلب السريَّة، والوقت الطويل، والأموال.. ومسلم جاء على ظن أنه سيتولى قيادة العراقيين (الجاهزين) ريثما يأتي الحسين فيقودهم، فدخل مكشوفاً وبعد هنيهة صار مكشوفاً حتى لدى صبيان الكوفة.
وهنا أدرك مسلم حقيقة أن العراقيين لا يعلمون شيئاً، لذا رفض اقتراح محبيه الذي جاء محاولة يائسة للانتصار، وهو اغتيال أمير الكوفة، فهو يعلم والحال هذه انه حتى إذا أسقط الكوفة فلن يستطيع التهيؤ في وقت قصير لقتال الجيش الشامي.. وأخيراً تخلى عنه الذين وعدوه بعدما تحرك يزيد وأميره عبيد الله بن زياد واحكموا القبضة على الكوفة، فقاتل دفاعاً عن النفس بشرذمة لا ناصرة ولا منصورة، بينما كان الكوفيون تحشدهم السلطة لقتال الحسين(29).
قادة حرب يزيد:
تولى قتال الحسين أربعة قياديين، هم كما وصفهم الجاحظ: يزيد (الملك)، وشمر بن ذي الجوشن (الرئيس)، وعبيد الله بن زياد (الأمير) وعمرو بن سعد (قائد الجيش)(30)، وهم بهذا التسلسل في القوة والأثر، فابن سعد أضعفهم وهو مفضوح التردد غير واضح الولاء لذا طرده يزيد أخيراً، وهو سطحي في الأحداث وأقربهم إلى السلم لذا التقاه الحسين على انفراد للتفاوض مرارا(31).
وكان عبيد الله بن زياد أقوى كرهاً وحرباً ولكنه لا يمثل يزيد، لذا وجدناه قلقاً، فانه بادر بقبول الصلح حين عرضه عليه الحسين لذلك قبل بالصلح: "هذا كتاب رجل ناصح لأميره، مشفق على قومه.. نعم قد قبلت"(32). ثم يعترف أنه قتل الحسين بعد وصوله تهديد مباشر من يزيد: "أما قتلي الحسين فإنه أشار عليَّ يزيد بقتله أو قتلي، فاخترتُ قتله"(33).
ويعدُّ الشمر ممثلاً ليزيد ومراقباً لسريان الخطة التي وضعها لقتل الحسين، لذا اعترض على قبول ابن زياد الصلح فانبرى قائلاً بعنف: "أتقبل هذا وقد نزل بأرضك والى جنبك"(34)؟ ثم اقترح خطة تفاوض سلبية تنسخ وتمسخ الصلح، وقد لقنها الشمر لابن زياد فراح يتبناها؛ لأنها رغبة يزيد وهي: "لينزل على حكمك هو وأصحابه، فان عاقبت كنت وليّ العقوبة، وان عفوت كان ذلك لك"(35).
لذلك وجدنا عمر يقول للشمر بعدما تلقى من ابن زياد رسالته التي تضمنت خطة الشمر البديلة: "أفسدتَ علينا أمراً كنا رجونا أن يصلح، والله لا يستسلم الحسين أبداً"(36)، وهو ما كان فعلاً فعندما عرضوا الأمر على الحسين عرف الأمر وتبينه فاستمهلهم إلى الغد ليستعد للقتال وينظر في أحوال عائلته، مردداً: "هيهات منا الذلة"(37).
لقد أدرك الحسين في هذه النقطة ما خطط له يزيد، وتبينت الحقيقة كلها، لذا أراد تسريح كل من معه حتى أقاربه في قوله لهم: "إنَّ القوم ليسوا يقصدون غيري، وقد قضيتم ما عليكم فانصرفوا، فأنتم في حل"(38)، ولكن ما كان لهم تركه وما كان له إجبارهم على ذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر:
(14) الكامل في التاريخ: 8/549.
(15) واقعة كربلاء في الوجدان الشعبي: 280.
(16) ينظر: مقتل الحسين لعبد الرزاق القرم: 320.
(17) في لسان العرب: استقتل: هو أن يطرح نفسه في الحرب، يريد أن يَقتل أو يُقتل لا محالة. (لسان العرب: 11/ 54).
(18) تاريخ الطبري: 4/ 319.
(19) جاء في مجمع الأمثال: أن عمرو بن مامة نزل على قوم من مراد فطرقوه ليلاً، فأثاروا القطا من أماكنها، فرأتها امرأته طائرة، فنبهت المرأة زوجها فقال: إنما هي القطا؛ فقالت: لو تُرك القطا ليلاً لنام. يضرب لمن حمل على مكروه من غير إرادته (ينظر: مجمع الأمثال: 3/ 82.
(20) كتاب الفتوح: 4/291.
(21) ينظر: مقتل الحسين لأبي مخنف: 14.
(22) مقاتل الطالبيين: 73.
(23) الكامل في التاريخ: 4/40.
(24) الكامل في التاريخ: 4/562.
(25) الأخبار الطوال: 249.
(26) مقتل الحسين لأبي مخنف:43.
(27) مقتل الحسين لأبي مخنف: 45.
(28) ينظر: مقتل الحسين لأبي مخنف: 20.
(29) ينظر: مقتل الحسين لأبي مخنف: 89.
(30) كتاب البرصان والعرجان والعميان والحولان: 129.
(31) ينظر: الكامل في التاريخ: 4/557.
(32) الكامل في التاريخ، 4/557.
(33) الكامل في التاريخ: 4/ 140.
(34) الكامل في التاريخ: 4/557.
(35) الكامل في التاريخ: 4/557.
(36) الكامل في التاريخ: 4/558.
(37) كتاب الاحتجاج: 2/ 24.
(38) تاريخ اليعقوبي: 2/244.