سقاء الروح...
14-09-2019
رجاء محمد البيطار
وينطلق صوته عميقاً؛ لأنه ينطلق من عمق الروح، ضعيفاً؛ لأن النبرة عنده قد استنفدها نزف الجروح:
- مولاي، أخي أبا عبد الله، أنت الساعة أخي، حبيبي وسيدي ومولاي وقرة عيني، تأخذ برأسي وتمسح الدم والتراب عن عيني، ولكن، سيدي، بعد ساعة، وعندما تسقط سقطتي، من يأخذ برأسك ويمسح الدم والتراب عن وجهك ؟! سيدي، لا يكون لي ما ليس لك، دمي لك، قلبي لك، كل كياني وروحي لك، وعزائي ما عشت ومتّ أبداً لك، ولكن لا يكون لي أبداً ما ليس لك.. !
وأطلق شهقة، ثم شهقة، ثم أخرى..
وزفر يتشهد، هلّل ومجّد، ونطق باسم محمد، ثم لبى نداء آل محمد..!
وهتف الحسين منتحباً ... بحزن تجدد ولا يزال يتجدد :
- وا أخاه، وا عباساه، الآن انكسر ظهري وقلّت حيلتي، الآن شمت بي عدوي..!
لقد فاضت روح الورع التقي، البطل الأمجد، فاضت روح عشقت، فنيت، ذابت عشقاً في الحب الأوحد، فاضت وارتقت وسمت من حضن الحسين إلى الحسن وفاطمة وعلي ومحمد D..!
وصمتت زينب تلملم آهاتها، وإذا بأم البنين تضمها لتدفن في صدرها بعض زفراتها، وفي قلبها فيض غلبها من عبراتها، وتهدهدها كلمات زينب متابعةً صلواتها :
- أماه، لا بأس عليك... لا بأس بأن تندبي العباس، فالحسين أول من ندبه..! ومن أجدر من أبي الفضل بدموع عينيك؟!
وكأني بالكلمات تنسلّ من أم البنين بخجل، ترتعد وتقول :
- ولكن الحسين لا أمّ له، فهل أندب ولدي وأترك ندبه؟! لا كان ولا يكون..!
وتردّ زينب، وقد لاحت لها في المدى تلك القربة الفيّاضة بماء الأخوة والمحبة:
- إيه يا أم البنين، فلنبك العباس، وجعفراً وعبد الله وعثمان، فلنبك عوناً ومحمداً، وكل أنصار الحسين، ونحن إذ نبكيهم إنما نبكي الحسين..!
يومها خرجت أم البنين من دار الحسين، تتحسّس قلباً كاد يصمته الحنين..
مرت بدار العباس، دخلت حجرته، رأت بين جدرانها صورته، وفي وجوه أطفاله وجهه الوسيم وفي عيونهم البريئة نظرته وبسمته، فضمّتهم طويلاً وبكت مشتاقةً ضمّتَه، ثم راحت تطوف في أرجاء البيت تتنسم عبيره وعبرته، فتسمع عبر الأثير نبرته، ثم لاذت بثوب له تشم فيه رائحته، وضمته إليها، ضمته إلى ثوب والده الأثير، الذي ما فتئت تتنشق منه ذاك العبير .
إيه يا عباس، من لي بقميصٍ مضمّخ بدمائك يُرمى على وجهي فترتد إليّ أنوار الحياة، كما يعقوب ويوسف..!
إيه يا يوسف مشاعري، من لي ببئر أحفرها بأظافري، واستدر ماءها من دموع محاجري، وأمدّ دلوي فيها فأستقي، وإذا الريّ غلام بشائري..!
إيه يا يوسف أحلامي، يا زهرة عمري وسلامي، يا وِرد صلاتي وصيامي.. يا نور ضاء لأيامي.. غابت لغيابك أحلامي.. صمت لساني، كَلّ كلامي..
ذبلت أغراسي وتهاوت فوق الظلمات كأنسامي..
إيه يا يوسف أحلامي، ما يعقوب وما همّه إن قورن بالهمّ أمامي؟!
هو فقد حبيباً، كان بعلمه أنه حي، ولديه من الأولاد بقية، وأنا في يومٍ، أيقظني القدر وأفقدني كلَّ بني؛ أربعة وحسين، فوق الكلّ حسين، راح ولم يبقَ لدي، سوى طيفه يخرق حجب الأنوار العلوية..
لا عثمان، لا عبدالله ولا جعفر، لا عباس ولا ولديه..
لا حسين، ولا علي الأصغر والأكبر، لا ناصر لحسين قد أبقته يد الإجرام الأموية..
يا لها حقاً رزية.. !
ما يعقوب وما همّه، إن قُورن بالهمّ الأكبر، همّ استشهاد بني حيدر..؟!