مقومات الصياغة التدوينية.. التحقيقات الصحفية وخصوصية التفرد القسم 2

22-08-2019
علي الخباز
حقق الأمر: أثبته وصدقه.. إن التحقيق هو الوصول الى الحقيقة، وليس هناك تعريف واضح للتحقيق الصحفي يحدد تعريفه، فهو نمط عند البعض وقالب متن للتغطية التحريرية والنشر الصحفي يقوم على خبر أو فكرة أو حدث أو قصة, هناك من رأى أن التحقيق الصحفي يطلق على اساس تناول وعرض الخبر بالشرح والتفصيل، وهناك من حدد التحقيق، ويخصصها بعض النقاد للقضايا الاجتماعية (شرح وتحليل)، ويرون التحقيق هو المادة الصحفية التي تجيب بالتفصيل (كيف ولماذا) ويعتمد على اثارة ادوات الاستفهام.
اولاً: يشير البعض ان التحقيق غير مختص إلا بـ(لماذا) كونه يشرح الاسباب, التحقيق الصحفي دراسة واستطلاع وبحث وتقصٍ قد يكون ابداعياً يبحث في الابعاد الكامنة وراء الاخبار والمفاهيم السائدة, تحقيق اعلامي، تحقيق توجيهي، تفسيري، ترفيهي، تعليمي, هو فن التنوير والتحقيق.
نحن لدينا مشكلة في استخدام الأسئلة المباشرة في اللقاءات او المقابلات والمحاورات, نجد هناك استخداما مباشرا: كيف، لماذا، اين..؟ تأخذ عند الصحفيين منحى الاسئلة الاستجوابية اي لا فرق بينهم وبين ضباط التحقيق او التحقيق القضائي، لابد من تعمية السؤال والتحقيق الصحفي:
استطلاع، بحث، تحليل..
الخبر = الحدث
التحقيق = لماذا حدث..؟
لدينا مشكلة اخرى في التطبيقات العملية، المنهج الاكاديمي لا يقبل اي تغير في حرفية المحاورة غير مسموح الحذف والاضافة نحن لدينا فعل ابداعي، فنتصرف تصرفاً كاملاً في حرفية الحوار لتحقيق لغة الشكل الكثير من البؤر القصدية لا يستطيع المحاور التعبير عنها.
انفعالية المحاور، تشابه الحديث عند مجموعة من المحاورين او تناقض معلوماتهم فمن حق الصحفي ان يحافظ على رشاقة موضوعه، غير مجبر أن يأخذ كل ما يقوله المُحاوِر، ثمة امور لا تعنيه، غير مهمة، ولا تعني الموضوع بشيء او مسألة اشكالية الارتقاء بالتلقي، هذه لا تكتمل الا بوجود صحفي مقتدر يستطيع ان يبتعد عن الجمل الجاهزة والمكرورة مثل: عزيزي القارئ، قلنا في العدد السابق، طول الاستشهاد من المرجع او استخدام الاساليب القديمة: افعال امرية، نجد عبثية في المقدمة بحيث تنتج لنا مقدمة لا علاقة لها بالموضوع، او نجد البعض يستخدم جملا جاهزة، بينما هناك فسحة جمالية عالية في تقرير الصحفي (علاء سعدون) موضوع عن ورشة عمل حول الديناميكية السببية للدماغ، نجده يقدم موضوعا سلسا يكمل بعضه بعضا، نجد في الشعر مثلا روابط الجملة الشعرية اذا حذفنا اي مقطع ولم يحدث خلل، هذا يعني اننا بحاجة الى حذفه، فهو يبتدأ بالعنوان ثم يتناغم مع المدخل الاستهلالي بهدف رفد الساحة العلمية العراقية، ثم يبدأ في المقطع الثاني يتحدث عن المشاركة في الورشة من قبل مجموعة كبيرة من الأكاديميين من كلية الطب والتخصصات الاخرى في الجامعة العراقية، ثم يكشف استدراجا حضور وفد العتبة العباسية المقدسة وممثلي رئاسة الوزراء والتعليم العالي ورئيس الجامعة بعدها يسلط الضوء على عمل الورشة وعلى مرضى التوحد، ويبدأ التركيز على منحيين: الاول المحاضر والثاني المحاضرة.
والمنجز الثالث عن دعم العتبة العباسية المقدسة كإشارة للعمل الإعلامي، الكلمات المباشرة لا تصنع موضوعات مؤثرة فهناك قصدية لا مباشرة, في تقرير للصحفي (طارق صاحب) يتحدث عن زيارة لسماحة السيد احمد الصافي (دام عزه) لمركز تراث سامراء التابع للعتبة العسكرية المقدسة وحين وضع في الحسبان المناسبة التي تزامنت مع الزيارة هي مناسبة ذكرى استشهاد الامام الحسن العسكري A في 8 ربيع الاول يعني اشتغل على عدة ازمنة تحريرية: (زمن المناسبة + زمن الزيارة + زمن الزيارة + زمن الكتابة + زمن القراءة + الزمن المستمر المفتوح) ثم يبدأ بالتفاصيل ليتجه الى عدة اتجاهات: الاول اعجاب وسرور سماحة السيد وهذا السرور لا يأتي ولا الاعجاب الا لوجود عمل وجهد مثابر، والرأي الذي لخصه بأن هذه النتاجات فاقت عامل الزمن على حد وصف سماحة السيد الصافي.
الموجه الثانية انه سلط الضوء على جهد هذا المركز الذي تمثل بتنوع النشاطات العلمية القيمة ومن ضمن هذه التفاصيل مناقشة الجانب الثقافي للعتبات المقدسة، والموجه الاخر هو وقع الزيارة في نفوس العاملين ولقاء عن قراءة انطباعية عن فيلم سينمائي فيكون الفلم هو مصدر التحقيق.
في تجربة صدى الروضتين عاملت التحقيق معاملة ادبية، تصرفت في عملية التحاور بما يحقق لغة ذات حبكة وابداعية يحفظ المحاور بمضمونية الرأي وليس بشكله الحرفي، هناك مسألة مهمة قد نختار نحن لها تسمية ظاهرة (التوائم والتوالم) اي توجيه سؤال يتوالم شخص مع عمر ثقافته ووظيفة الشخص، فلا يمكن أن يوجه لطالب المتوسطة رأي عن اسلوبيات التعليم الدولي المتقدمة ليقارن بها اسلوبية المنهج التدريسي في العراق..! أن نسأل منتسباً في العتبة العباسية المقدسة عن الاليات الهندسية التي عملت عليها الإدارة الهندسية للعتبة المقدسة..!
ترى احيانا المتحدث يأخذ ما يريد من السؤال، على الاعلامي مواءمة نقاط التحاور ليخلق وحدة موضوع مع ضغط وشذب ما لا ينسجم مع طبيعة عملها الإبداعي، الصحفي غير مجبر على ان يأخذ كل ما يقوله المحاور، وهذا الواقع التطبيقي بلا محسنات التنظير وصرامته، لابد من وضوح السؤال، التحقيق له ارتباط دقيق في الحياة الاجتماعية، تمتلك التحقيقات مواد تفسيرية وجواذب، فلو نظرنا في تقرير الصحفي (احمد صالح) نجد هناك مقدمة تعد من الجواذب؛ كونها تقدم فصلاً ادبياً تعبيرياً (شرف الانتماء يتقلده خدام المولى ابي الفضل العباس A، ليتقلدوا وسام الخدمة المشرفة من تحت قبة الجود والاباء، وهم ينطلقون بسواعدهم بين اروقة الصحن الشريف لأبي الفضل العباس A، كوادر ترتل اروع آيات الولاء هي من انشطة العاملين في ادامة الثريات المعلقة داخل الحرم الشريف).
والتقارير والتحقيقات تميل الى التوثيق، تغطيات خبرية لمنجزات جميع الانشطة والمشاريع، مثلاً في موضوع الكاتب (زين العابدين السعيدي): (فرقة العباس - عليه السلام - القتالية تستذكر ثلة من شهدائها بحفل تأبيني بين الحرمين الشريفين)، اذن هناك عمل توثيقي واضح.
ونتأمل في تغطية الصحفي (حيدر داود) لحفل يقيمه قسم الشعائر والمواكب الحسينية بمناسبة مولود الرسول الاعظم، وحفل اخر يعد له تقريرا الصحفي (علاء سعدون) لترسيخ المنجز والبحث عن الفرادة في مثل هذا الكم الهائل من الصحف والجرائد، والمواقع التي تتطلب التحرر من الاساليب القديمة الجامدة والمواضيع المكرورة، الفرادة موجودة وبقوة في العراق لكنها عبارة عن تجارب فردية لبعض البارزين مهنيا بينما الطموح كإعلام ينفتح على الفرادة وتكون تجربة اعلامية وليست تجربة شخصية.
لاشك صدى الروضتين تحمل قداسة الانتماء وهذا يعني هناك تخصص وهناك التزام يشذب الانفتاح، ليس لدى صدى الروضتين تصعيد استفزازي بل تمتلك عملاً تأملياً في الحوار الاعلامي الشمولي، أي أن تنوع المشاريع وتنوع المناسبات وتنوع المنجز سيبعد عن الكتاب التنميط، ومثل هذه اللقاءات ترصن الكتابة وتبني الكوادر المبدعة فلا بد من مزج العمل الصحفي مع العمل الادبي، فهذا المزج سيمنحنا ابداعاً يحقق تسليط الضوء وكسب الملتقي، وخاصة عند البحث عن صناعة الرأي؛ كوننا نعمل في خط فكري روحي وانساني .
قبل الخاتمة هناك مرتكزات مهمة لابد أن نقف عندها:
- لابد لكاتب التحقيق الصحفي أن يرجع لسياسة الجريدة التي يعمل بها وهذه السياسة تكون مرتكز وجوده في صلب الموضوع وغالبا ما يصطدم الصحفي مع المنجز التحاوري، فالمحاور له قناعاته والتي قد لا تتوافق وسياسة المنشور والمؤسسة التي تحتضنه كإعلامي هنا تقع مسؤولية الاقناع والاقتناع ليعالج مسألة توازن الانتماءات الفكرية ويأخذ من المحاور ما يوازن موضوعته وانتماءه وسياسة المنشور.
- اقحام المفردة وسحبها الى ساحة القصدية عبر تراكيب جملية تبحث عن المؤولات وعن تفسيرات متعددة لخطاب ذي معنى محفز والشمولي العام للجمهور، يتعامل مع ادب الدعاء والمناجاة ومرويات نهج البلاغة وبلاغات الأئمة D، وفهم معانيها فهماً عالي القيمة، ويعني أن المسألة تتعلق في قضية الابتعاد عن المكرور والكان كان السردية والتي هي فعلاً تثبط النمو البياني والمضموني ولا ترتبط بأية منظومة ابداعية سوى قدرة التدوين الهابطة عند بعضهم.
- إن المكان في جميع هذه الفعاليات يحمل وجوداً انسانياً مفعماً بالدلالة، ومثل هذا المرجع المكاني يمتلك أفقاً مؤثراً انفتح على العالم من خلال العديد من المهرجانات العالمية كمهرجان ربيع الشهادة الخامس عشر ومهرجان ربيع الرسالة الثقافي العالمي السابع، وتوثق أيضاً فعاليات مهرجان المسرح الحسيني العالمي وضمن التغطية الخبرية التي تحمل عنوان المهرجان الثقافي أو الفكري أو الفعالية أو النشاط لتعريفها كدلالة على ما تقدمه العتبة المقدسة من حراك شمولي.
اقترنت سطوة الصحافة في العراق وفي اغلب العالم العربي بتبعيتها السلطوية للحكومات الجائرة، ولذلك تجد ان هذه الصحافة غيّرت معناها الانساني وحددت آليات عملها الاعلامي بالخبر وحيثيات الخبرية ومتابعتها التحقيقية البسيطة التي تحتاج الى جهد ابداعي؛ كونها تترصف الكلمات بقوالب تعبيرية جاهزة، فلذلك خسرت دورها الحقيقي كصحافة وطنية انسانية، ولم تعد لها اهمية في حياة الناس.
- عاملت الصحافة الفاعلة التحقيق الصحفي ومنذ بداية صدورها على انه نوع من انواع الابداع الادبي، ومن الزواحف الادبية التي زحفت على فن الصحافة في جميع انحاء العالم وخصوصية هذا التعامل يكمن في ان من اولويات الصحافة هي عدم اعطاء الرأي بل ترك الرأي حراً أمام اختيارات التلقي فيصبح الدور الصحافي منكمشاً في دور واحد هو عرض الآراء المتباينة التي تساعد القارئ في تكوين الرأي، وهذه النقطة هي التي كانت مدخل الاعلام السلطوي للتعميم على الحقائق وتزييف الواقع سعياً لبلورة الرأي الموهوم في ذهنية المتلقي.
- تخضع عملية التلقي العام لمؤثرات كثيرة منها الزماني وكذلك المؤثر المكاني ومنها ما يخضع لمرتكزات ثقافية وامزجة شعرية ومعرفة هذه المناحي المهمة في عمليات الاستيعاب الامثل تجعل الاعلامي ينقب في اعماق التجارب الاسلوبية ليرسم خطى تجربته سعياً لامتلاك زمام موضوعته عبر وتيرة انتشارية تمتلك حراكاً نشطاً ينفتح على ضغط تكثيفي للجملة مما يسهل عملية التلقي.