الشهيد أبو تحسين القنّاص: النصرُ أولاً ثم الشهادة ثانياً..!
17-08-2019
صباح مهدي
جاء عليّ متناولا جميع أجزاء الفيلم الذي أمرهم أستاذهم أن يشاهدوه قبل يومين من أجل استخلاص الدروس الإعلامية العسكرية للحرب التي يخوضها الجيش العراقي وفصائل الحشد الشعبي ضد تنظيم داعش الإرهابي حيث تكون مادة الفيلم امتحانهم اليومي وليس من قراطيسهم كما هو معتاد، والفيلم بعنوان (العدو على الأبواب) وتحكي قصة الفيلم هذا عن أحد الشباب من الريف السيبيري ذات الطبيعة الروسية القاسية والذي زج به عنوة من دون تدريب من قبل حكومة الاتحاد السوفيتي سابقاً (الدكتاتورية الستالينية) مع جموع شبابية إلى محرقة موت واضحة وضمن تشكيلات طلابية عسكرية غير نظامية شبه شعبية، لتحرير مدينة ستالينغراد التي احتلتها القوات الألمانية في الحرب العالمية الثانية.
فجلسوا كل في مقعده، وما هي إلا بضع دقائق حتى دخل الأستاذ عباس أستاذ مادة الإعلام في الكلية, حياهم تحية طيبة وأجابوا بصوت متفاوت على تحية أستاذهم، جلس الأستاذ خلف طاولته بعدما سحب كرسيها ووضع حقيبته الجلدية الحمراء في فجوة منضدته على الأرض قائلاً لهم: شاهدتم الفيلم ومن يرغب أن يشارك في الامتحان حيث جعل هذا الامتحان اليومي اختياريا، ومن يريد فبمادة الكتاب لا بأس في محاضرة الأسبوع القادم لكن اليوم الامتحان هكذا عبر مناقشة هذا الفيلم مريداً من فعله هذا أن يرى في تلامذته هل من مدرك للصور الحسية المرئية وما مدى مفهومهم في تصور عموميات الأشياء المروية في هذا الفيلم - وكل فيلم - أم تبقى المتعة الفارغة هي المطلب الأول لهم..؟ وإلى إي مدى تكون حذلقتهم في فهم مادة الإعلام المنظور والمسموع حيث السينما والتلفاز والمسرح كلهم من هذا الباب..؟
فلم يرفع يديه سوى طالبين اثنين فقط، أقطب حاجبيه وأسند ظهره إلى كرسيه الأنيق متأففا من قلة المشاركين في نقاش الامتحان هذا, فلم يتعب نفسه مستفسراً عن عدم مشاركة الباقين فهو أستاذ جاد لا يحب إضاعة وقته عن سؤال طلابه عن سبب قلة المشاركة في هذا الامتحان ذات الأسلوب الجديد عليهم، وبالتأكيد ستكون أعذارهم أشكالاً بألوان..! فأشار باكتفاء من رفع يديه وهم اثنان فقط متفائلاً فيهم الخير المرجو منه إلى ما قصد وهؤلاء الاثنان هم كل من علي وزميلته كوثر، فبدأ بكوثر قائلاً لها: تفضلي ابنتي وطلب السكوت وبصوت تهديد منه مدوٍّ لجميع الطلاب بعدم التعقيب على أي حدث ومن يخالف يخرج من قاعة المحاضرة ويعتبر غائباً، ولأنهم - أي الطلبة - يعرفونه صارماً جاداً في هذا الأمر، فلقد لزموا السكوت ممتعضين..! فبدأت كوثر مقارنتها الإعلامية بين الحشد والفيلم قائلة: روسيا تعرضت إلى غدر من قبل الألمان بهجوم مباغت على الرغم من وجود معاهدة عدم الاعتداء بينهما المعروفة باتفاقية (مولوتوف – ريبنتروب) في آب من عام 1938م والتي خرقها النازيون بهجومهم على روسيا في العام 1939م واحتلالهم مدينة ستالينغراد ومن هنا تبدأ قصة فيلمنا الذي فيه امتحاننا عن الإعلام، فمعنويات الجيش الروسي كانت منهارة وغير قادرة على تحرير المدينة على الرغم من تكرار أكثر من هجوم لتحريرها فبدأت تدب بين صفوف الجيش حالة مفادها اليأس من محاولات الهجوم المتكررة والخاسرة التي يتكبد خلالها الجيش الأحمر خسائر فادحة بالأرواح، فأصبحت الحالة المعنوية منهارة لدى قطعات الجيش الأحمر؛ بسبب هذه التضحيات الجزيلة والعجيب إنها كانت - أي الخسائر البشرية - ليست من اهتمام القيادة السوفيتية وفي خضم الحرب الدموية تلك يصل المبعوث السياسي (نيكيتا خروتشيف) ليقف على الأمور المتدهورة للجيش السوفيتي ويلتقي بالضابط دانيلوف الذي اقترح عليه ان نعطي الجنود الامل ونجعل لهم قدوة يقتدون به ويحذون حذوه في مواجهة العدو بدل أن نقتلهم نحن برصاصنا إن تراجعوا رغما عنهم ونقتلهم نحن يا سيدي بأيدينا بعد كل هجومٍ يخوضونه مع العدو. ينظر إليه خروتشيف بنظرة مقتنع، ويقول له: هل لديك واحد فيجيب الضابط دانيلوف: نعم لدي واحد وهو المجند (فاسيللي زايتسف) ويأمر خروتشيف بإعادة الجريدة العسكرية التي ألغيت بطلب من الضابط دانيلوف أيضاً ليسطر فيها انجازات المجند دفاسيللي زايتسف وغيرها أيضاً من الأخبار العسكرية والسياسية التي تنهض من عزيمة ومعنويات الجند السوفيت, التي باتت عمليات قنصه للضباط الألمان تأخذ وتيرةً تصاعدية محدثة الرعب وسط الجيش النازي وخصوصا الضباط منهم حيث كانوا استهدافه الأول وصيده الثمين وكانت هذه الأخبار ترفع من معنويات الجند السوفيت حيت تنشر الجريدة العسكرية السوفيتية أعداد ضحاياه أولاً بأول.
وهنا تنعطف كوثر وتثني على إعلام الحشد الشعبي حيث جعل من القناص الشهيد أبي تحسين موضعَ عزٍ وافتخار ورفع لمعنويات الجيش والحشد الشعبي من خلال إظهاره كمقاتل محترف ومجاهد وهو بهذا العمر الذي لا يبدو صغيراً, هنا يقاطعها الأستاذ عباس قائلاً لها: نعم هو كذلك بطلٌ من أبطال العراق والحشد الشعبي لكنك لم تصلي إلى ما أصبوا إليه من استقرائي لأمرٍ غير ما توصلت إليه..!
نعم، أنت أجدت فيما وصفت، لكن ليس هذا مبتغاي لما أريد أن أكلمكم عنه وأحسنت يا بنتي، ولك ست درجات من عشر في هذا الامتحان تفضلي استريحي شكراً لك, ويشير إلى علي ليتحدث عن الفيلم، فيقوم علي متنفساً الصعداء على عدم إجابتها غير المرضية لقناعة الأستاذ فيمضي قائلاً: لم يكن الجيش يا أستاذ في هذه المرحلة بحاجة إلى المعنويات بعد فتوى الدفاع المقدس التي أطلقها السيد السيستاني (حفظه الله) فلقد كانت هذه الفتوى كافية لرفع الروح المعنوية لمقاتلي الجيش العراقي خصوصا بعدما التحق الآلاف من الشباب المتطوعين ضمن صفوف الحشد المقدس الباسل مساندين قطعات الجيش بشجاعتهم ومعنوياتهم المرتفعة في حب الشهادة وفداء الأرض والإنسان.
قاطعه الأستاذ: هنا إذن، إلى ماذا كان محتاجاً الجيش والوطن..؟ فأجاب علي: كان ما يحتاجه الجيش والحشد الحفاظ على هكذا مجندين وعدم تصويرهم بهذه الصورة التي كشفت شجاعتهم الباسلة والتي كان من الأفضل الاحتفاظ بسرية عمل الشهيد أبي تحسين كقناصٍ بارع، ولأن حربنا أيضاً ليست كحرب الألمان والسوفيت، بين دولتين كبيرتين من قوميتين مختلفتين، فحربنا هي حرب تتقارب فيها اللغة والقومية، ومن الخطأ تصويره بهذا الإعلام الواضح والصريح مقارنة مع فاسيللي زايتسف فكما أسلفت فالجيش الأحمر السوفيتي كان لا يمتلك مثل ما يمتلك الجيش الألماني من قوة حربية متطورة من دبابات وطائرات، والجيش كان بروح معنوية منهارة وكانوا بحاجة إلى واحدٍ مثل زايتسف ليقوي روحهم المعنوية التي كانت بحق قد انهارت أمام اندفاع الجيش الألماني وانتصاراته في عموم أوروبا في تلك الحقبة من الزمن, فالإعلام الحربي العراقي يا أستاذ قد بالغ في تصوير الشهيد أبي تحسين بهذا الوضوح مما جعل العدو يتربص به انتقاماً منه؛ فحاصره العدو في إحدى طلعات الجيش والحشد خلال تقدمهم على أحد الكمائن القريبة من مدينة الموصل وهو ضمن قطعاتنا الأمامية التي من المفترض أن تكون محمية، لكنها الحرب هي هكذا يا أستاذ مليئة بالمفاجآت..!
هنا يقاطعه الأستاذ عباس قائلاً له: أحسنت هذه هي العبرة من هذا الفيلم، فبالنسبة لـ(فاسيللي زايتسف) كان عمله الأساسي من القنص رفع المعنويات لجيش الاتحاد السوفيتي السابق فلذلك كان يقنص الضباط والضباط فقط لتدمير معنويات ضباط الجيش الألماني التي إذا ما انهارت، انهارت معها معنويات باقي الجنود وبذلك تكون هزيمتهم ممكنة، أما الشهيد أبو تحسين (رحمه الله) كان عكس ذلك، فلقد كان عاملاً مسانداً للعمليات العسكرية في إسناد الجيش والحشد من الخلف حينما يتقدمون وهو بهذه السن المتقدمة من العمر فكان من الأولى إعلامياً الاحتفاظ بسرية عمل الشهيد؛ لأن الحرب لم تنتهِ بعد وخصوصا حينما سألوه في أحد اللقاءات الإعلامية المكشوفة الخاطئة من قبل الإعلام الحربي هل تطلب الشهادة أم النصر..؟ فأجاب بعقل عسكريٍ ذكي: الحرب لم تنتهِ بعد, نعم الشهادة أملي، لكن النصر أولاً ثم الشهادة ثانياً..! الأستاذ عباس: أحسنت يا علي.. ولك مني عشر درجات كاملة.