ثقافة فكر..(34) (التفكير العقلي)

03-08-2019
علي الخباز
يتميز الانسان عن سائر الكائنات الحية بتفكيره العقلي، وقد استطاع من خلال اعتماده على هذا التفكير من تحقيق التطور هائل في كل شؤون حياته الفردية والاجتماعية، أردنا أن نحلل عملية التفكير بالوجدان والتأمل العقلي، فسنجد أنها حركة الذهن من المعلومات الحاضرة بأذهاننا لاستكشاف المجهولات والتعرف عليها فهي في الواقع حركة من المعلوم الى المجهول.
الواضح أن المعلومات التي ينطلق منها الذهن في تفكيره ستكون الحجر الأساس الذي ينبني على تفكيرنا للوصول الى النتائج المطلوبة، أهمية التفكير في حياة الانسان، المنظومة الفكرية في الانسان تولد من خلالها وتتضمن هذه المنظومة رؤيتها النظرية الكونية عن الفلسفة الكونية والحياة والهدف من وجود الانسان في هذا العالم ومصيره بعد الموت.
قواعد التفكير الصحيح للعقل قوانينه الطبيعية كسائر أعضاء جسم الانسان، عمل العقل أثناء التفكير هو فعل اختياري للإنسان العاقل، اكتشاف الحكماء تلك القوانين العقلية الطبيعية للتحليل العقلي، ودنوها في كتبهم المنطقية لتصبح معيارا للصحة العقلية.
هناك مفاهيم واضحة عند كل العقول لا تحتاج لما يبينها مثل: مفهوم الذات والوجود والعدم والضرورة والاستحالة والوجوب والامكان.. وهناك مفاهيم مبهمة تحتاج الى من يوضحها لنا مثل مفهوم الذرة والبروتون والطاقة والنفس والروح والاله، قضايا يصدق بها العقل بنحو التلقائي، مثل امتناع اجتماع النقيضين بمعنى امتناع اجتماع الصدق والكذب، وهناك قضايا ومسائل غامضة تحتاج الى دليل يثبت صحتها مثل أن الجسم يتركب من ذرات، وأن الذرة تتكون من الكترونات وبروتونات ونيترونات، وأن الطاقة تتحول الى مادة والمادة الى طاقة او هناك اله خالق ومصمم لهذا الكون، وأن هناك حياة بعد الموت، وغير ذلك من قضايا غير البدهية التي تفتقر الى دليل يدل عليها، قانون التفكير العقلي المنطقي الصحيح هو أن نبدأ تفكيرنا من الماهية الواضحة كهذا التوضيح للمفاهيم الغامضة، ننطلق من مبادئ نستحسنها ونحب ان نصدق بها، لانسجامها مع اهوائنا، أو انطباقها مع مصالحنا الدنيوية، فهذا لن يقودنا إلا الى الخطأ أو الحيرة أو الضلال.
شرائط التفكير الصحيح:ـ
من أجل تحقق التفكير الصحيح يحتاج الانسان أولاً: العلم بهذه القوانين، فينبغي على الانسان الذي يريد أن يكون مستقلاً في تفكيره أن يطرح نفسه مفكراً او منظراً او مرشداً للآخرين.
ثانياً: مراعاة القوانين في تفكيره، لتصبح ملكة خلقية راسخة عنده، ويتمتع بالتفكير المنطقي. ثالثاً: اعتماد التجرد والموضوعية في تفكيره بعيداً عن الضغوط الدينية والمذهبية والعرفية، او تسلط الوهم والاحاسيس على تفكيره، حتى يتمتع بالنزاهة الفكرية في احكامه واعتقاداته.
موانع التفكير الصحيح:
ينبغي على الانسان العاقل الباحث عن الحقيقة ان يرفع ويزيح الموانع:
- التعصب: هو ليس بسبب الاعتقاد اليقيني المطلق، كما يتوهم الحداثيون ويدعوننا بعدها للظن والنسبية والتعددية؛ بل بسبب الاعتقادات القبلية المبتنية على الاعراف الاجتماعية المأنوسة أو تقليد الاكابر.
- تقديم المصلحة الشخصية أو الفئوية: حيث تجعل الانسان يلوي عنق الأدلة.
- التسرع في التصديق.
(فلسفة الوجود):
بعد ان يفرغ الباحث من تعلم القواعد المنطقية للتفكير الصحيح، ويتخلى عن الموانع النفسية، ويتحرر من التعصب والأنانية، يصبح بعدها مؤهلاً لأن يسبح بفكره في بحر الكون والوجود ويخوض بعقله في المباحث الفلسفية، ليجيب عن اسئلته الكونية: من أين؟ وفي أين؟ والى أين؟ التي تحدد مسيره ومصيره في هذا العالم وما بعده، وليصل بعد التفكر والتدبر والاستدلال البرهاني، الى شاطئ الأمان والواقعية.
(قانون العلية):
يشير قانون العلية الى ان أي شيء حادثي في الوجود بمعنى انه لم يكن ثم كان، لا يمكن ان يخرج من العدم الى الوجود بنفسه. كل من انكر قانون العلية من امثال: دافيد هيوم او غيره من الماديين والملحدين كريتشارد دوكينز أو استيفن هوكنج، فهو لجهلهم بمعناه وحقيقته ولذلك نراهم يعيشون حالة من التخبط والتناقض ، اذ نجدهم في بحوثهم العملية والفكرية، يبحثون عن علل الظواهر الطبيعية واسبابها، او اسباب نشأة الكون وتطوره، مع انكارهم لأصل العلية، وهو فرع قانون العلية وكما ان اصل الوجود المعلول من علته كذلك خصوصياته الذاتية، تتكون من خصوصيات علته.
اذا رأينا كتابا فلسفيا مثل (الشفاء) عرفنا ان صاحبه فيلسوف كبير كابن سينا؛ لأن هذه الفلسفة لا تصدر الا ممن يملك ملكة العلم والاجتهاد في الفلسفة، وكذلك من قرأ ادبيات شكسبير، ويعرف ببساطة انه أديب كبير وقدير، والنظام لا يخرج من اللانظام وهذا امر في غاية الوضوح، عند كل انسان يحترم عقله ويصدقه.
(انواع العلل):
العلل الذاتية: وهي التي يتوقف وجود المعلوم عليها بالذات دائماً او في اكثر الاحيان.
العلة الفاعلية: منها وجود المعلول.
العلة الغائية: وهي ما لأجله يجعل الفاعل المعلول.
والعلة المادية: وهي مادة المعلولات التي تحمل استعداداتها الانفعالية المختلفة.
والعلة الصورية: وهي صورة المعلول التي تكون فيها حقيقتها الفاعلية التي تميز عن غيرها، فالنجار هو العلة الفاعلية، والجلوس هو الغاية التي من اجلها صنع النجار الكرسي، والخشب مادتها وشكل الكرسي صورتها ومن الواضح ان انتفاء اي علة من تلك العلل الاربعة يؤدي الى انتفاء وجود الكرسي، ولذلك كانت عللا دائمية له بالذات، والعلل الذاتية الفاعلية منها تامة تستلزم بنفسها صدور المعلول بالضرورة، مثلا المبدأ الالهي عند الفلاسفة بالنسبة للأصل صدور العالم ومنها ناقصة وتسمت بالمقتضى اذ لا يكفي وجودها لوجود المعلول، كإحراق النار للورق، فهي تحتاج الى وجود الاوكسجين ومماسة الورق مع انتفاء الرطوبة من الورق.
الظواهر الطبيعية التي اكتشفها العلم هي في الواقع اسباب قريبة لها، فلها اسباب بعيدة تكمن وراءها، فمعرفة السبب القريب لا ينفي وجود السبب البعيد.
علل آفاقية: وهي في قبال العلل الذاتية التي تقتضي بذاتها المعلول، فهي في الواقع علل مركبة من اجزاء يندر اجتماعها معا، ولذلك تكون معلولاتها نادرة ايضا بحسب حساب الاحتمالات، وهي التي يسميها العوام بالصدفة، كمن حفر الأرض فوجد كنزاً.
علل معدة: وهي التي يسميها الحكماء علل الحركة لا الوجود، فهي التي تقرب صدور المعلول من علتها، بتهيئة الظروف المناسبة لذلك، وهي كثيرة جدا في عالم الطبيعة مثل: الزارع الذي يضع البذرة تحت التراب ويرويها بالماء، ثم يتركها لتصبح شجرة.
ان الزارع ليس هو من اوجد الشجرة، بل هو هيأ الظروف لإيجادها من عللها الفاعل ولذلك يقول البارئ في القرآن الكريم: (أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ )63) أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاء جَعَلنَاهُ أُجَاجًا فَلَولَا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ) (الواقعة/72).
(قانون امتناع تسلل العلل):
لو اشترطنا على مجموعة من الناس الا يدخل احد منهم الى البيت الا اذا كان مسبوقا بغيره، فلن يدخل احد، فاذا وجدنا الناس قد دخلوا البيت، فنعلم ان واحدا منهم، هو اول من خالف هذا الشرط ودخل بنفسه، ثم دخل الآخرون وراءه، بعد تحقق الشرط، فنفهم ان هناك موجودا اول قد دخل الوجود قبل ان يكون قبله شيء، وهي العلة الأولى لهذا العالم، ثم صدر عنها سائر الموجودات في الترتيب، هذا بالنسبة لعلل الوجود الحقيقية، كعلل الحوادث الزمانية.
(القوة والفعل):
من أن الشيء إما موجود بالقوة او موجود بالفعل، ومعنى الوجود بالقوة هي شأنية الوجود: كوجود الشجرة في البذرة، أو وجود الانسان في النطفة، وأما الوجود بالفعل، فهو كالإنسان نفسه او الشجرة نفسها، فالشجرة والانسان غير موجودين، في البذرة أو النطفة بالضرورة، وهو امر واضح بالتشريح والمشاهدة الحسية القطعية، ولذلك فان حصولها للبذرة او النطفة انما يكون من علة وجودهما المغايرة لهما، فكل ما يبحث عنه الفيزيائيون وعلماء الاحياء من نشوء العالم وتطوره من امثال: داروين وستيفن هوكنج وغيرهم انما هو بحث يتعلق بكيفية النشوء والتطور لا بعلته.
(الممكن والواجب):
مثل اتصاف البياض بالابيضية فنقول البياض واجب الابيضية، أي أبيض بالضرورة، أو اتصاف الجسم بالامتداد نقول الجسم واجب الامتداد، أو الاحراق للنار فنقول النار واجبة الاحراق، وهذا الوصف الذاتي لا يحتاج الى علة لثبوته لموضوعه؛ لأن نفس موضوعة هو علة، ثبوته لنفسه.
وأما أن يكون الوصف عارضاً غريباً على الموضوع، فيكون ممكن الثبوت له، كاتصاف الماء بالحرارة فنقول الماء حار بالإمكان، او اتصاف الجسم بالحركة فنقول الجسم ممكن الحركة، اتصاف الأشياء بمثل هذا الأوصاف العرضية، تفتقر الى علة خارجية، ولهذا يقول الحماء كل عرضي معلل، فالماء يحتاج الى النار مثلاً: ليكون حاراً، أو الجسم يحتاج الى محرك ليحركه من الخارج سواء كان محركاً طبيعياً: كالجاذبية، أو إرادياً كالإنسان، الواجب الوجود هو الشيء الذي يكون الوجود عارضاً على ذاته كسائر الذوات في العالم.