قراءة في كتاب دور المراقد في حياة الشعوب الدكتور الشيخ محمد صادق الكرباسي اعداد: عبد الحسين الصالحي
22-06-2019
لجنة الدراسات والبحوث
جسدت المراقد والمقامات أدواراً مهمة في معتقدات الديانات السماوية، وناقش هذا الكتاب معنى كلمة المرقد، وناقش الدكتور دور المراقد في نهضة الشعوب، ومدى تأثيرها الايجابي الذي تركته هذه المراقد في المجتمعات.
لقد حفل التاريخ الاسلامي منذ اقدم العصور بموسوعات ضخام ومؤلفات عظام في علوم مختلفة، وكان نصيب الشيعة هو قصب السبق في القرن الرابع الهجري، كتاب (احصاء العلوم - لأبي نصر الفارابي)، وكتاب (رسائل اخوان الصفا) وأيضاً (الاخوان الالهيون)، الف الأغا رضي القزويني كتابه (لسان الخواص)، وألف العلامة المجلسي (بحار الانوار)، وكتاب (الأسفار - للفيلسوف صدر المتألهين الشيرازي).
وقاد المؤسس المجدد الاغا باقر البهبهاني نهضة فكرية عظيمة في جامعة كربلاء المقدسة، وتمكن من تربية كوكبة عظيمة من شيوخ الاجتهاد واساطين الدين، وقام تلامذته بتدوين الفقه الموسوعي (مفتاح الكرامة) وللشيخ محمد تقي البرغاني، المعروف بالشهيد الثالث صاحب موسوعة (منهج الاجتهاد)، وكتاب (غنيمة المعاد) والذي تم تحقيقه في ثلاثين مجلدا طبع منها ثمانية مجلدات بعنوان (موسوعة البرغاني في فقه الشيعة)، وتراجم الشيخ الاغا بزرك الطهراني.
أبدع السيد حامد حسين الكنتوري بموسوعته (عبقات الانوار) ثم موسوعة (اعيان الشيعة) للسيد محسن الامين وموسوعة (الذريعة الى تصانيف الشيعة - لشيخ العلماء شيخنا الاستاذ الشيخ اغا بزرك الطهراني).
نهض سماحتة البحاثة آية الله الدكتور الشيخ محمد صادق الكرباسي، بالتأليف في هذا المضمار بأكبر موسوعة في مناقب ابي الاحرار وسيد الشهداء أبي عبد الله الحسين A والتي لم يكتب من صدر الاسلام حتى يومنا هذا مثلها، فان ثورة الحسين A كانت لها منزلة عظيمة في نفوس المسلمين، وجاءت فكرة اصدار الموسوعة الحسينية لتلبي حاجة الدارسين والباحثين والمؤرخين.
محور المراقد المقدسة هو مرقد أبي عبد الله الحسين A، حيث يقع في قلب العالم الاسلامي، يقول الدكتور عمر بن موسى كاتب مصري معاصر له كتاب أدب الدول، وأهم شيء يمكن التوصل اليه هو مدى التأثير الايجابي الذي تتركه هذه المراقد في المجتمعات المحيطة بها وذلك لارتباطها الوثيق بمعتقدات تلك الشعوب.
وذكر الكتاب الدور السياسي لتلك المراقد المقدسة، ان لكل شعب معتقداته، ومفاهيمه، وتقاليده اضافة الى تصوراته الخاصة حول الكون والحياة وامور الدين والمعتقد، والحكومات اللا شرعية تعمل على استغلال عواطف ومشاعر الناس لمصالحها، ودعم بقائها في الحكم وتثبيت ركائزه، وهي ان الدول تقام على اكتاف الشعوب، وسياسة العطف والعنف بدءا بالدولة الاموية ومرورا بعهود الظلم التي توالت على حكم عالمنا الاسلامي وانتهاء بالدول العظمى التي حشرت انفها في المنطقة بغرض السيطرة عليها واستنزاف قدراتها المادية والمعنوية.
ومنذ اللحظة الاولى التي استشهد فيها الامام الحسين A وضع الحكم الاموي العقبات والمواقع متشبثا بكل الوسائل والحجج لمنع الناس من زيارة قبره، وما ذلك الا لمعرفته بعظمة الراقد وتأثيره في النفوس التي تستلهم.
لقد كان لهذا القبر الشريف الحي بنهضته والدائم الاشعاع اثر بالغ الوقع والتأثير في الكثير من الاحداث والوقائع والثورات على مر العصور والازمان، ومن ذلك وقفة التوابين، ممن لم تسنح لهم الفرصة لنصرة الحسين فخرجوا على الحكم الاموي بقيادة سليمان الخزاعي والمسيب الفزاري وعبد الله الازدي ورفاعة البجلي وعبد الله التيمي، وثورة المختار الثقفي من زعماء الثائرين على بني امية واحد من الشجعان الافذاذ.
وقامت ثورة زيد بن علي بن الحسين D وقتل في مواجهة الجيش الاموي في الكوفة، وهناك ثورة صاحب (فخ) هو الحسين بن علي بن الحسن المثلث بن الحسن (المثنى) ابن الامام السبط الذي نهض عام 169هـ على الحكم العباسي وقتل في منطقة (فخ).
وتتواصل الثورات والانتفاضات لتطالب بالثأر الحسيني، فقاموا وباسم قرابة الدم بتأليب الوضع واثارته من ادنى البلاد الى اقصاها مستغلين حب الناس وتعلقهم واخلاصهم لهذا الراقد الأشم، استتب لهم الحكم ورسخ سلطانهم، ثم كشف عنهم القناع وظهر زيفهم بعد طول كذب ومواراة، فجاء المنصور العباسي وهو ثاني من حكم العباسيين ليأمر بهدم قبر الحسين A ويمنع الموالين من زيارته، وجاء بعده هارون فنهج نهجه الى ان وصل المتوكل هو ابن المعتصم العباسي، فحرث القبر اربع مرات ليمحو ذكره وعلى اثر ذلك قتله ابنه شر قتلة عقابا له لحرثه قبر الحسين الذي دفن قبل عشرات السنين.
ومرت حكومات عربية وتركية وفارسية وتركمانية كانت تتسابق تارة الى ابداء احترامها واظهار تقديسها لهذا القبر وتبجيله وصرف المبالغ الطائلة التي قدرت بملايين الدنانير الذهبية من أجل اعماره، وتارة تأتي حكومات أخرى لتنهب هذا الاموال أو لتصرفها على جندها وعتادها.
وللقبر الشريف اهمية سياسية، ولعل السر من تكاثر المقامات وتعددها كما في الرأس الشريف هو امر سياسي اكثر مما هو امر تبركي، وكان للخلاف السياسي بين الامبراطورية العثمانية والايرانية اثره البالغ في فتح باب الزيارة للعتبات المقدسة، نرى مثلاً مدحت باشا والي بغداد هاجم مدينة كربلاء، يوجه دعوة للسلطان الايراني ناصر الدين القاجاري الى العراق بدعوة رسمية من الحكومة العثمانية فزار المشهد الحسيني، جاء لزيارة العتبات المقدسة على نفقة الامبراطورية العثمانية، وملك ايران رضا بهلوي بن عباس قلي بعد القضاء على الدولة القاجارية وبعد دخول جيوش الحلفاء الى ايران انتزعوا منه التنازل عن العرش لصالح ابنه محمد رضا عام 1360 هـ ونفي الى جزيرة موريشيوس حيث مات فيها.
حاول منع الحجاب ومنع اقامة الشعائر الحسينية وبرر منعه للزيارة بما كان يعانيه الزوار من تعذيب وايذاء اثناء مرورهم في دوائر ومراكز الحدود العراقية، ومنذ قدوم الملك فيصل الى العراق كان يبدي تقرباً من علماء النجف وكربلاء والكاظمية عبر تقديم نفسه على اساس انه شيعي المذهب وعبر زيارته العتبات المقدسة وتأدية الصلاة، وفقا للتقاليد الاسلامية الشيعية.
ويرى الأستاذ عبد الحليم الرهيمي وهو كاتب وصحفي عراقي ان الملك فيصل تعمد ان يتوافق يوم تتويجه مع ذكرى عيد الغدير، ويقول الكاتب والباحث الكويتي عبد الله بن فهد النفيسي: ان هذه المقامات ليست مجرد مراكز دينية لكنها ذات نفوذ سياسي واسع النطاق بصفتها ملاذا يلجأ اليه الزعماء السياسيون في اوقات الضيق، عندما نشأت ازمة حادة بينهم وبين السلطة العلمانية.
ويقول الاستاذ عبد الحميد الخياط - كاتب عراقي: ان الملوك والامراء كانوا يتنافسون على تشييد المعالم الفنية يحدوهم الوازع الديني والدافع الروحي وتقربا للعامة.
وبالنظر لأهمية مدينة الحسين A سياسيا واجتماعيا ومعنويا فقد انطلقت منها ثورة العشرين واتخذ قادة الثورة من كربلاء مركزا للقيادة التي تمخض عنها استقلال العراق وتأسيس دولته الحديثة وفيها صمم علم الاستقلال وشهدت المدينة مراسيم رفع العلم للدولة العراقية الحديثة، لأول مرة فوق بناية الادارة المحلية والتي كانت تسمى بالسراي.
دور المراقد المقدسة في ترسيخ العلاقات بين الشعوب:
المراقد المقدسة كانت سببا مباشرا في توثيق عري الاخوة والمحبة بين الشعوب الاسلامية على اختلاف لغاتها وجنسياتها، ان تدفق الملايين سنويا لزيارة العتبات المقدسة وتوقف الكثير منهم فترة طويلة بل وهجرتهم اليها احيانا واستقرارهم الدائم فيها كان سببا في توثيق اواصر العلاقة بين الشعوب الاسلامية، وخلق وحدة تلقائية وواقعية وتكوين مجتمع اسلامي متسامح يألف بعضه بعضه الآخر دون ادنى نزعة عصبية أو قومية، لقد كان دور المراقد واضحا ومؤثرا في تنمية وتعميق العلاقات بين الشعوب الاسلامية على اختلاف قومياتها ومشاربها.
وفي موضوع الدور الثقافي للمراقد المقدسة، للزيارة طقوس متنوعة اهمها تلاوة نصوص معينة، الزيارة، في كل مناسبة، وقد حثت الروايات على تلاوتها فعندما يسعى الزائر الى تعلم القراءة كحد ادنى ليتمكن من قراءة النصوص، كما انه يسعى الى فهم معانيها ولاستيعاب المقصود منها خضوعا لنص بعض الزيارات، ومن حركة الزيارة المتواصلة طوال السنة في المناسبات الخاصة والعامة وتوافد الزائرين من اقطار العالم كافة نشأت حركة تعليم اللغة العربية ايضا الى جنب لغة الزائر.
وفي ظل اجواء التوافد هذه وبالأخص لزيارة مرقد الامام الحسين A، والذي تعد مدينته من اكثر المدن المقدسة في العالم الاسلامي استقبالا للزوار، ومن حتميات النهضة الفكرية الشاملة ولادة حركة علمية، وشهدت المدينة العريقة والاصيلة حماسة علمية متنامية قلما تضاهيها مدينة اخرى.
منذ القرن الاول الهجري وهذه المدينة تشيد دعائمها العلمية وشهدت القرون التالية ظهورها كمدينة علمية مرموقة وضعت نواة النهضة العلمية في مبنى المراقد المرقد الشريف للإمام الحسين A، فازدحم العلماء والرواة واصحاب القلم والفكر واحاطوا بالعتبة المباركة مستغلين الغرف المحيطة بها والاروقة المشيدة حولها حتى عج الصحن الشريف بالدارسين والاساتذة من اصحاب العلم والفكر، مما حدا بالسلطان عضد الدولة وهو (فنا خسرو البويهي الديلمي) خامس السلاطين الى تأسيس مدرسة علمية؛ لاستيعاب النشاط العلمي.
خرجت الجامعة في هذه المدينة المقدسة مئات المفكرين وعشرات المراجع، لم تقتصر النهضة العلمية في هذه الجامعة على علوم الفقه والحديث والاصول بل شملت العلوم العقلية والنقلية كافة الاسلامية ومنها العربية الى جانب علوم الطبيعة والفلك والطب وغيرها، وصدرت اولى الصحف الوطنية من كربلاء في قبال الصحف التي اصدرتها حكومة الاحتلال البريطاني والجيش العثماني من بغداد والبصرة.
واما الدور الديني للمراقد المقدسة حمّل ابناء هذه المدينة التزاما وانقادوا طواعية لأحكام وقواعد هذه المدينة المقدسة والمنافع كثيرة اهمها: ان الصفة الغالبة للعلاقة الاجتماعية والاسرية تربطهم المحبة والود والرحمة والتسامح والسلام، القاضي الشرعي لا يقبل القسم الا ان يكون داخل الحرم؛ لأنه أوقع في النفس واقرب الى الواقع، واصبحت المراقد وقبور الأئمة والأولياء مراكز يقسم بحرمتها في جميع انحاء الفرات الاوسط والاسفل، واهم المراقد حرمة مرقد العباس بن علي في كربلاء، والعباس عندهم رجل شديد الغيرة (ابو راس الحار) هذه الفكرة وهذه القدسية بحد ذاتها تساعد على خلق واشاعة جو روحي بين الناس بعيد عن الكذب والنفاق فيسلم الناس وتتحصن علاقتهم الاجتماعية من فتك مرض اجتماعي خطير فيعيشون حياتهم بعيدا عن اجواء المحاكم والعقوبات، وليس هناك انسان ومن أي مذهب كان ينكر اهمية هذه الفقرة، وهذا التعالق الروحي، ويكاد ينعدم في مثل هذه المجتمعات الدينية المحافظة أي اثر للمنكرات والمفاسد والصراعات والآفات الاجتماعية بشتى صورها: كالمواد الكحولية ونوادي الفساد الليلية المعدومة والمحظورة عرفا وقانونا في مثل هذه المدن المقدسة.
وعن دور الاقتصادي للمراقد المقدسة يعتبر موردا اقتصاديا وماليا مهما تنشط المنطقة اقتصاديا وماليا مهما من موارد الدولة التي تتولى ادارة شؤون تلك البقعة المباركة، يبذلون المال بسخاء وكرم فتزدهر البقعة بالفنادق والاسواق والمطاعم والمصارف والمكاتب السياحية.
واما الدور السياحي فهو معروف بما تمتلك تلك المراقد المقدسة من معاني الروعة والبهاء تلك، فكل قطعة وكل حجر فيه سفر يدلك على التاريخ، الجمال وروعة البناء الهندسي اللذان تتمتع بهما اضرحة ائمة اهل البيت D لا يفوقهما شيء في العراق، وكذلك الدور الفني والتي هي عبارة عن تحف فنية واثار قديمة ونفيسة تعتز بها الامم وانسانية يجب المحافظة عليها.
هناك الفسيفساء (الكاشي) وهذه المهنة ذهبت اسرار صناعتها مع الاوائل وان التزاويق والالوان الزاهية الثابتة التي تقاوم الطوارئ الطبيعية بثباتها على اشكالها التي أصبحت الآن نادرة الصنع والتخاريم الخشبية وفن الصياغة، وهناك دور كبير لهذه المراقد المقدسة في العمران والبناء.
كتاب مهم.. بارك الله بالجهود التي صاغته لنا ابداعا ومعرفة.