هل الشر من الله؟ (القسم الثاني)
04-06-2019
الشيخ نصير السعداوي
هل الشر من الله؟ (القسم الثاني)
رابعاً: إن بعض هذه الحوادث الكونية جزء من سلسلة من الأحداث جعلها الله تعالى لغاية ما، قد وصل إلى بعضها العلم الحديث ولم يصل لبعضها الآخر، مثل هبوب الرياح بشكل سريع على منطقة مما يسبب أذى للسكان هو في الحقيقة ممارسة لعملية التلقيح لبعض النباتات بحبوب اللقاح التي تحملها الرياح معها، ومثل تغير اتجاه الرياح في أوقات ثابتة - ضمن نظام يكتشفه العلم باستمرار - مما تساعد السفن الشراعية على السفر بسرعة أكبر.
وقد تقول: إن الله تعالى قادر على أن يحقق هذه الأغراض المذكورة بلا أن يسبب أثراً سلبياً على الآخرين في طريق تحقيقها، وهذا نقوله بالنسبة لهذا التفسير والذي قبله.
وجوابه: صحيح أن الله خلق الأشياء من العدم ولكنه عندما فعل ذلك خلق نظاماً كونياً مترابطاً في أجزائه بحيث يكون إدامة عمل أجزاء هذا النظام الكوني العظيم – وهو ما يصطلح عليه بالتدبير – إنما يكون ببعض أجزائه الأخرى، بلا حاجة لتدخل منه تعالى لخلق حاجة كل جزء من العدم مرة أخرى، كما فعل في بداية خلقه، بل يكون نظره إلى مصلحة خلقه ضمن نظام مترابط متكامل، يعتمد بعضه على بعض، فمثلاً: الله تعالى يعلم حاجة الإنسان والكائنات الحية لنسبة معينة من الأوكسجين في الجو، وهو قادر على توفير هذه الكمية بالخلق المباشر كلما استهلكتها الإنسان والحيوان، أي يخلق الأوكسجين من العدم، ولكنه (عز وجل) وفر وجوده بأسباب طبيعية، وذلك عن طريق طرح النبات له في عملية البناء الضوء مثلا، وهكذا دبّر الله تعالى خلقه وما يصلح لهم.
والواقع إنه تعالى لم يوفر حاجات وجود الإنسان الطبيعية: كالماء والهواء بهذه الطريقة فقط، أي بأسباب طبيعية: كالمطر والمياه الجوفية وكالبناء الضوئي كما بينا، بل إنه تعالى جعل رزق عباده متوقفاً على بعضهم البعض، فلقد رأينا بعض الأزمات التي يمر بها المجتمع ولو لفترة معينة، كيف أن الله تعالى يجعل منها مصدر رزق لمجموعة من الناس.
خامساً: إن تعريف بعض الأمور السلبية التي تحصل للإنسان بفعل الله تبارك وتعالى بالشر غير دقيق، فالله تعالى لا يخلق الشر، بل إن كل ما فعله ويفعله بالكون وبالإنسان هو محض خير لا شر فيه؛ وذلك لأن خلق الشر قبيح وهو تعالى لا يأتي بفعل قبيح، كما بينا، وما نتصوره شراً في فعله تعالى لا بد وأن يكون لغاية صحيحة مفيدة بشكل ما، قال تعالى: "عسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيرا كثيرا".
قد تقول: إن هذا الفهم يشبه إلى حد كبير النظرية المعروفة (الغاية تبرر الوسيلة)، فلا مانع من كون الوسيلة سيئة ولكن هدف الباري منها سليم.
وفي الجواب نقول: إننا لا ندعي أن الوسيلة سيئة وشريرة والغاية صحيحة ونبيلة، ولكن نقول إن نفس هذه الشيء الذي نعتبره شراً في فعله تعالى هو خير في الواقع، إن بعض الأمور ننظر لها بهذا المنظار؛ لأن الشر معنى إضافي، أي بالنسبة لجهة معينة شر، ولكن لغيرها محض خير، فمثلاً لدغ النحل المسبب للألم أو لدغ العقرب هو شر للإنسان المتعرض له، ولكنه خير للحيوان الذي دفع عن نفسه بهذا الفعل الأذى، ومن ذلك الإصابة بالحمى الذي هو مؤشر على وجود خلل في الجسم، وتعرق الإنسان الذي يوفر للجسم استقراراً في درجة الحرارة.
ومن طريف ما يروى في هذا الصدد ما قيل في امرأة دخلت على داوود النبي A فقالت: يا نبي الله ربك عادل أم ظالم؟ فقال A: ويحك هو العدل الذي لا يجور، ثم قال لها: ما قصتك، قالت: إني امرأة أرملة وعندي ثلاث بنات وإني أقوم عليهم من غزل يدي فلما كان أمس شديت غزلي في خرقة حمراء وأردت أن أذهب به إلى السوق وأبيعه فأشتري الطعام للأطفال، فإذا بطائر قد أنقض عليّ وأخذ الخرقة والغزل وطار، وبقيت حزينة لا أملك شيئاً أبلّغ به أطفالي فبينما المرأة مع داود A في الكلام إذا بالباب يطرق على داود، فأذن له بالدخول وإذا بعشرة من التجار كل واحد بيده: مائة دينار فقالوا: يا نبي الله أعطها لمستحقها، فقال لهم داود A: ما كان سبب حملكم هذا المال؟ قالوا: يا نبي الله، كنا في مركب فهاجت علينا الريح وأشرفنا على الغرق، فإذا بطائر قد ألقى علينا خرقة حمراء، وفيها غزل فسدّدنا به عيب المركب، فهانت علينا الريح وانسد العيب، ونذرنا لله أن يتصدّق كل واحد منا بمائة دينار، وهذا المال بين يديك فتصدق به على من أردت، فالتفت داود A إلى المرأة وقال لها: ربك يتجر لكِ في البر والبحر وتجعلينه ظالمًا، وأعطاها الألف دينار وقال: أنفقيها على أطفالك.
هذا كله بالنسبة للنوع الأول من المكاره الحاصل بفعله تعالى بشكل مباشر، والذي يتصوره البعض شراً.
القسم الثاني: نتائج الفعل السلبي للإنسان، نظير الدمار والقتل الناتج عن الحروب، والفقدان الحاصل من السرقة، والألم الحاصل من الشتم والسب والجرح وغير ذلك.
إن هذه الأمور يمكن أن يطلق عليها مصطلح الشر، ولكن هذا لم يحصل بفعل الله تبارك وتعالى بل بفعل الإنسان السيء.
إن الله تعالى خلق – فيما نعلم – ثلاثة أنواع من المخلوقات الحية، فخلق الملائكة وأودعها العقل وكلفها بما يريد ولم تحتج معه إلى الغرائز، وخلق الحيوان ولم يمنحه شيئاً كثيراً من القدرة على التفكير فلهذا لم يكلفه، وخلق الإنسان وأودعه كلا الأمرين، العقل والغريزة، وكلفه ومنحه الاختيار ولم يخلقه مجبوراً على فعل الطاعة، قال تعالى: "إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفوراً"(14)، وقال الإمام علي A: "إن الله (جل جلاله) أمر تخييراً، ونهى تحذيراً، وكلف يسيراً، ولم يطع مكرهاً، ولم يعص مغلوباً، ولم يخلق السماء والأرض وما بينهما باطلاً"(15).
صحيح أن الله تعالى خلق الإنسان وأعطاه القدرة على حسن الأفعال وسيئها، ولكنه لم بجبر عباده على فعل الطاعة ولا على ترك المعصية، ولو فعل ذلك فلا معنى لإيقاع العقاب بالمجبور على المعصية، ولا لإعطاء الثواب للمجبر على فعل الطاعة، ولكنه تعالى مع وجود الاختيار، لا زال المسيطر على فعل العباد والقادر على منعهم عن الفعل السيء متى شاء وأراد، فلم يعصوه لقوتهم وضعفه تعالى عن ذلك علواً كبيراً.
والأفعال السيئة التي يقوم بها الإنسان على نحوين:
الأول: سيء بالنسبة إليه وحده، كاقتراف بعض المعاصي الخاصة به كترك الصلاة والانتحار مثلاً.
الثاني: مضر بالآخرين: كالسب والشتم والقتل وكل ما ذكرناه.
إنه تعالى منح الإنسان القدرة الكاملة على ممارسة كلا الفعلين في ذات الوقت الذي حذره منه ونهاه عنه.
إنه تعالى لا يتدخل – مع قدرته على ذلك - لمنع الإنسان تكويناً من إلحاق الضرر بالآخرين، لمنافاة ذلك للاختيار الذي أعطاه للجميع.
نعم، قد يتدخل لمنع حصول الضرر في بعض الحالات التي يرى المصلحة في هذا التدخل، مثل ما حكاه القرآن الكريم عن جعل النار برداً وسلاماً على إبراهيم A بعد أن حاول قومه حرقه، إنه تعالى خالق للنظام الفيزيائي للكون ومنها طبيعة النار الحارة والمحرقة، ولكنه قادر على خرقه متى شاء، كما أنه أراد منع حصول شر الاحتراق عن نبيه A فتدخل لمنعه.
إن الشر الذي يلحق بالإنسان المظلوم من قبل أخيه الظالم مضمون التعويض عند الله تعالى من ناحيتين:
الأولى: التشريعات الإلهية التي حددت العقوبة على المجرم وتعويض المظلوم في هذه الدنيا.
الثانية: العقاب الأخروي في حال عدم التزام المجتمع الإنساني بتطبيق العدالة التي أمر بها الله تعالى في هذه الدنيا، وهذا صمام الأمان لتحقيق العدالة الإلهية التي لا بد وأن تطبق.
إن الفهم الصحيح للسلبيات التي تجري للإنسان وربطها بالعقيدة الصحيحة يفسرها تفسيراً صحيحاً، مما يورث الاطمئنان والراحة للإنسان المؤمن بعد الإيمان بحكمة الله تعالى في خلقه وعدله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر:
(1) الأنعام: 73.
(2) فاطر: 15.
(3) الحديد: 3.
(4) المؤمنون: 15.
(5) النساء: 40.
(6) آل عمران: 18.
(7) الطلاق: 7.
(8) الكهف: 49.
(9) الإرشاد: ج1/ ص225.
(10) نهج البلاغة – قسم الحكم – رقم470.
(11) شرح نهج البلاغة: ج20/ ص227.
(12) الزمر: 42.
(13) ابن نباته السعدي.
(14) الإنسان: آية: 3.
(15) مر ذكر المصدر.