الاسقاطية ونظرية المؤامرة في رواية (فيلم سينمائي)

03-06-2019
حيدر السلامي
الاسقاطية ونظرية المؤامرة
في رواية (فيلم سينمائي)
لصلاح الخاقاني
عذابات الشعوب ونضالاتها ضد الحاكمين الطغاة لم تكن ثيمة جديدة ولا مستغربة من كاتب عراقي عاش حقبة تعد الأسوأ والأسودَ ليس في تاريخ العراق فحسب بل والمنطقة أيضاً.
ففي روايته الأولى (فيلم سينمائي) يقرر صلاح الخاقاني المتمرد على واقعه بشفافية الأدب الأسطوري أن يسقط الأحداث على سيناريو الخيال أو لعله أراد العكس تعزيزاً بالأشباه والنظائر وامتحاناً عملياً لنظرية المؤامرة ليخرج بالتالي إلى نهاية معروفة ولكنها مدهشة في الوقت عينه.
الرواية التي افترشت مادتها السردية على بساط أبيض يربو على المائتي صفحة، أثارت منذ الاقتباس السيابي قبيل بدايتها سؤالاً ملحاً عن الأسلوبية، أعني بها الطريقة الجديدة لبلوغ الغاية الإبداعية لدى الكاتب والقارئ معاً بالنظر إلى علاقتهما التشاركية في صنع الأحداث أو تذكرها على الأقل؛ لأن رواية من هذا النوع تجد لها شهوداً كثيرين على واقعيتها إذ أن بعضاً من أبطالها ما يزالون على قيد الحياة وبعضاً منهم غادرها جسداً ولم يغادرها روحاً أو لنقل أثراً.
لا شك في أن الجديد الذي جاءت به الرواية هو استعارة الفيلم الهوليودي وإعادة إنتاجه وفقاً للمخيلة العراقية وتمشياً مع ذائقة الكاتب وإحساسه العميق بحتمية ما يجري أو تفسيره للوقائع التي اكتظ بها المشهد الاجتماعي والثقافي إبان حكم النظام البعثي الصدامي.
استطاع الخاقاني وإلى حد بعيد أن يجانس بين مجريات الأحداث السياسية المعقدة في وطنه الأم وبين الصراع الدرامي الافتراضي مع الحفاظ على عناصر القصة السينمائية من زمان ومكان وشخوص ليقدم رؤية شديدة الوضوح ودلالة كبيرة على ألمعية أصحاب نظرية المؤامرة الزاعمين بأن العالم كله يتحرك سياسياً بوحي وإرادة خفية، وأن الحوادث فيه إنما هي زوابع تصنعها أصابع مجهولة في فنجان القهوة (الصهيو - أمريكية) ولا نريد الذهاب إلى أبعد من ذلك فنجتر مثلاً مقولة البنائين الأحرار (الماسونية).
ولم تقف مهمة (فيلم سينمائي) عند هذه الإخبارية التي هي ليست بالجديدة فعلاً بل حاولت وبقوة إيقاظ الوعي الراسب في قاع الذهنية الشعبية عبر تحريك خيوط القدرية والتدخلات الإلهية المباشرة وغير المباشرة في أوقات وحالات خاصة فتنعش بهذا روحانية الأقدار وترش على الأرواح اليائسة بعضاً من نور أو تبعث فيها شيئاً من أمل لتكسر من ثم قاعدة (ما مضى كان أفضل).
إن خيوطاً متشابكة ليس لها حصر تنسج بين الفيلم السينمائي وواقع الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية في ظل النظام الشمولي الذي جثم على العراق مدة غير قصيرة عادت فيما بعد بنتائج خطيرة ما زلنا إلى اليوم نحذر منها وما زالت تداعياتها تتنفس بل تتضخم داخل الرئة الوطنية.
إلى جانب ذلك قدمت الرواية مسحاً شاملاً للحالات الانفعالية والنزق السياسي لدى القادة وحواشيهم من المتملقين والمتسلقين، فضلاً عن الخسائر المعنوية والمادية التي مني بها العراقيون جراء سكوتهم على الظلم وتجرعهم مراراته لسنوات طويلة، لكنها رغم ذلك وفي عملية ربما كانت تعويضية لم تهمل الصور الإنسانية الفريدة للنخوة والشهامة والكرم الذي امتازوا به على غيرهم من شعوب الأرض.
ولم يكن من قبيل المصادفة أو البحث عن المائز إحلال المطابقة أحياناً والمفارقة أخرى بين الواقع العراقي وأحداث الفيلم كما لم يكن التعشيق بين اللغة العربية الفصحى واللهجة العراقية الدارجة نحواً من هذيان سردي مثلاً، وإنما جاءت منسابة في قالب درامي سلس رغم تشعبه للوصول إلى مرحلة الاندماج بين الراوي والرائي كما التطهير في المسرح أو ما أحب تسميته بالتظهير الذاتي عبر خوض تجربة الكتابة والقراءة في تجلٍ واحدٍ معاً.
لقد نجح الخاقاني بامتياز في توظيفه للمحكية؛ كي تعبر عن خلجات نفسية لا يشعر بإيقاعها إلا العراقيون وليس كل العراقيين بذلك سواء وإنما تلك الطبقات المسحوقة في المجتمع أو التي غيبها الفعل السياسي عن دراما الحضور والتأثير.
إن نظرة خاطفة على رواية فيلم سينمائي تعطيك انطباعاً عن كل ما يدور حولك من حقائق وأوهام بأنه مقطع من سيناريو أعد سلفاً ويراد تصويره الآن وكلَّ آنٍ.
هذه الإسقاطية لم تأتِ عبثاً ولا من جدب فكري أو مزايدة رخيصة أو موقف شخصي اعتاد عليه كتاب هذه المرحلة من التاريخ العراقي. كلا وحاشا.. إنها منطق القراءة التحليلية والنظرة الثاقبة لواقع الشعوب العربية وفي صدارتها العراق. على الرغم من تشظي الأفكار وتباعد الأجزاء والبساطة في البناء، فإن الرواية تستحق القراءة؛ لأنها تمثل صرخة من نوع مختلف. إنها جرعة مضاعفة من الألم العراقي المستديم. ومحاولة للتمرد المشروع في حضرة الأدب الرفيع.