هل الشر من الله؟
23-05-2019
الشيخ نصير السعداوي
هل الشر من الله؟
كثير ما يختلج في نفس الانسان تساؤلات قد يبوح بها وقد يكتمها حول ما يعتريه من مكاره في حياته، واحساسه بالظلم أحياناً، أو بالغبن أو على الأقل الحيرة، حول ما يلم به من أمور سلبية، ومقدار هذا الإحساس يعتمد على مقدار ايمان الانسان بالخالق سبحانه وبعدالته، أو بعدم إيمانه، فالإنسان الذي لا إيمان له بخالق أو الذي له عقيدة ضعيفة به قد يفسر ما يتعرض له من مكروهات بالظلم، والذي له إيمان أكبر قد يعتقد بأنه مغبون، ولكن المؤمن الصحيح الإيمان قد تنتابه الحيرة في تفسير هكذا أمور.
تفسير الظواهر السلبية:
كثيرة هي الظواهر السلبية في حياتنا، منها: بعض الظواهر الكونية مثل الزلازل والبراكين التي تسبب الدمار للأبنية والهلاك لعدد من الناس الأبرياء، بل حتى لغير البشر من المخلوقات، ومثل هبوب عواصف رملية شديدة التي تزدحم على إثرها صالات الطوارئ في المستشفيات بالمصابين بالاختناق، ومنها: تسلط الظالم على ظلم الضعيف سواء كان داخل الأسرة الواحدة أو بين أفراد المجتمع أو من قبل الحاكم الظالم لشعب بأكمله، وفي كل هذه الحالات هناك قطعاً من لا يستحق العقوبة فيهم، فهل كل هذه الأمور السلبية معدودة من الشر؟ وما الحكمة منها؟ وما علاقتها بالخالق تبارك وتعالى؟
قبل الإجابة عن هذه التساؤلات وغيرها، لا بد من الاعتقاد بأن الله تعالى عادل في كل ما يصدر منه، والإنسان العاقل بعد الالتفات والتأمل يذعن بهذه الحقيقة، فمنطلق العقل السليم يثبت عدالته سبحانه؛ لأن العدل صفة كمال والله تعالى منزه عن النقص، ولا يمكن تصور أي نقص ينسب لساحته تبارك وتعالى، إذ أن دواعي الظلم المتصورة التي يفترضها العقل البشري أربعة ولا نتصور لها خامساً، وهي كالآتي:
الأول: عدم المعرفة والتمييز بين طبيعة الأفعال، فيؤدي الجهل إلى ارتكاب الظلم.
الثاني: الحاجة لارتكاب فعل الظلم، كدفع الحاكم الظالم عن نفسه وحكمه الغير خوفاً منهم.
الثالث: وجود من يجبر الظالم على ارتكاب الظلم بلا رغبة منه في ذلك.
الرابع: أن يرتكب الظلم لأجل العبث واللهو، أي بلا مسوغ عقلائي آخر.
إن هذا الأسباب الأربعة كلها مستحيلة في حقه تبارك وتعالى، فكماله المطلق يستدعي وجود العلم المطلق عنده الذي يمنع عنه الداعي الأول لارتكاب الظلم، وهو تعالى وصف نفسه في كتابه العزيز بأنه "عالم الغيب والشهادة"(1).
كما لا يتصور في حقه الحاجة لأي شيء أو لأي أحد، وقد بيّن تعالى حاجة غيره إليه وغناه عن كل أحد، كما في قوله (عز وجل): "يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله، والله هو الغني الحميد"(2).
وهذا الداعي الثاني للظلم، والعقل السليم لا يقبل وجود جهة عندها قوة أكبر من قوته تعالى حتى تجبره، فهو تعالى "الأول والآخر والظاهر والباطن"(3)، وهذا الداعي الثالث، كما أنه (عز وجل) منزه عن العبث؛ لأن العبث قبيح، وهو تعالى لا يفعل القبيح، كما أنه استنكر من نسبة هذه الصفة له تعالى، إذ يقول: "أفحسبتم أنا خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون"(4)، وهذا الرابع والأخير.
إذن، لا يمكن نسبة الظلم له تعالى بحكم العقل كما تبين، كما أن القرآن الكريم مليء بالآيات التي تبيّن مدى كرهه تعالى للظلم وللظالمين، منها قوله (عزّ من قائل): "إن الله لا يظلم مثقال ذرة، وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيما"(5)، وقوله تعالى: "شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط"(6).
إن من ثمرات هذه العقيدة القول بأنه تعالى لا يكلفنا ما لا نطيقه، ولا يعرضنا لابتلاءات ومصائب لا نستطيع - بما أودعه هو عندنا من قابليات – تحملها؛ لأن كل ذلك قبيح، وهو تعالى منزه عن فعل القبيح، كما أنه تعالى يقول: "لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها"(7)، وقال (عز وجل): "ولا يظلم ربك أحداً"(8)، وأي ظلم أعظم من أن يكلف الإنسان ما لا يطيقه، أو أن يعرض الله عبده إلى ضغط المكاره والبلايا مع علمه بعدم قدرته على تحمل كل ذلك؟
إن ما يقدم عليه البعض من اعتراض على أحكامه تعالى أو تبرم لما يحصل له من مشاكل الدنيا ومكروهاتها، - بل قد يصل به الأمر للانتحار - إنما هو نتيجة ضعف الوازع الديني عنده لقلة المعرفة بالعقيدة الصحيحة أو لقلة الإيمان بها، وفي المقابل الإنسان العارف والمؤمن يواجه ما يكره من حوادث الدنيا بحمده تعالى على البلاء، كما يشكره على النعم والرخاء ولسانه يردد: الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه.
ومن ثمرات هذه العقيدة أيضاً الاعتقاد بأن الله تعالى حينما يبتلي عبداً من عباده أو يعرضه لألم ما، فلا بد أن يعوّضه عن كل ذلك إذا لم يكن مستحقا للبلاء والألم، وسيأتي مزيد بيان لذلك، وهذا العوض إما بالدنيا وإما بالآخرة حسب اختلاف الحالات، ويحتمل في مقدار هذا العوض ثلاثة احتمالات:
الأول: أن يكون أقل مما عرضه للبلاء والألم، وهذا مستحيل في حقه تعالى؛ لأنه محض ظلم.
الثاني: أن يكون العوض بقدر ما سلب منه، وهذا أيضاً مستحيل في حقه (عز وجل)؛ لأنه عبث وهو تعالى منزه عن العبث.
الثالث: أن يكون العوض أكثر مما أخذ وهذا هو الاحتمال المنطقي الوحيد.
يقول الإمام أمير المؤمنين A: "إن الله أمر تخييرا ونهى تحذيراً وأعطى على القليل كثيراً"(9)، فهو تعالى يعطى أكثر مما يأخذ.
بناء على هذا، فالإنسان العاقل الملتفت إلى كل ما ذكر يتوقع من الله تعالى العوض الأكبر عما يصيبه في هذه الدنيا إذا كان مستحقاً للعوض، وسياتي توضيح ذلك أكثر.
يقول أمير المؤمنين A وقد سئل عن التوحيد والعدل، فقال: "التوحيد أن لا تتوهمه والعدل أن لا تتهمه"(10)، ويقول ابن أبي الحديد المعتزلي في شرحه لهذا القول ما نصه: "... وأما الركن الثاني فهو "أن لا تتهمه": أي لا تتهمه في أنه أجبرك على القبيح ويعاقبك عليه... ولا تتهمه في أنه كلفك ما لا تطيقه، وغير ذلك من مسائل العدل.. كالعوض على الألم فإنه لا بد منه..."(11).
بعد هذه المقدمة تأتي الإجابة على السؤال التالي:
ما هو الشر؟ وما هي حقيقته؟
أن ما يتصوره الإنسان شراً على قسمين:
القسم الأول: الأمور التي تحدث بفعله تبارك وتعالى، والتي تسبب حالات ألم وأذى لفرد أو أفراد قليلة، أو تؤثر في حياة العدد الكبير من الناس، كالكوارث الطبيعية.
يمكن الإجابة عن هذا التصور من الشر بالآتي:
أولاً: إن الآلام التي يتعرض لها الإنسان بشكله الشخصي في هذه الدنيا بفعله تعالى، يمكن أن نتصور لها معنيين:
أولاهما: أنها عقاب مباشر منه تعالى للشخص على معصية قام بها في الدنيا، وهذا يتصور في حق الإنسان الذي يستحق العقاب في الآخرة ولكن الله يذيقه هنا في الدنيا بعض ما يستحق ليتعظ به الغير، كما قد يفعل ذلك ببعض الظلمة والمجرمين من تعرضهم لألم الإهانة والخزي في الدنيا مقدمة لما سيلقونه في الآخرة من شديد العقاب.
ويتصور هذا لبعض المؤمنين إذ تقتضي رحمته تعالى وعدله أن يوقع بهم العقوبة على سيء أفعالهم في الدنيا حتى يرفع عنهم عقاب بالآخرة، وبالضمن يكون ذلك رادعاً لهم ولغيرهم عن الاستمرار في ارتكاب المعصية.
ثانيهما: أن الألم المذكور محض ابتلاء يسلطه على بعض الناس بلا سابق معصية منهم، ولكن لغاية أو غايات عقلائية محضة، ومنهم الأولياء الذين يظهر الابتلاء مدى صبرهم وإيمانهم للناس، ليتخذ الناس منهم مثلا وقدوة، مع الالتزام بالجزاء الأوفى والتعويض المجزي لهم في الآخرة، وهذا ما حصل لبعض الأنبياء D مثل امتحان إبراهيم A بذبح ولده، وتعريض نبي الله أيوب A لأنواع البلاء حتى عد مثال الصبر.
ثانياً: إن الله تعالى حدد للإنسان ولغير الإنسان فترة معينة يعيشها في هذه الحياة، وعندما يصل عمره إلى نهايته فإنه يموت، مهما تعددت أشكال نهاية الحياة، فمن لا يموت بالمرض يموت بحادث سيارة مثلاً، ومن لا يموت بهذين السببين، يموت في منامه، وهكذا... قال تعالى: "الله يتوفى الانفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الاخرى الى اجل مسمى ان في ذلك لآيات لقوم يتفكرون"(12).
ولتكن من هذه الأسباب الزلازل والبراكين والحوادث الكونية الأخرى، فهي بعض أسباب الموت التي قدرها الله تعالى سببا لنهاية حياة المتواجدين في مكان حدوثها، بلا أن نتصور هذه الحوادث شراً، ونحاول أن نجعل لها تفسيراً مناسباً لعدله تعالى، كما قال الشاعر ابن نباتة السعدي:
من لم يمت بالسيف مات بغيره .. تعددت الأسباب والموت واحد(13).
إن هذه الإجابة تختص بالموت الحاصل نتيجة الحوادث الكونية، ولا تفسر الآثار الأخرى: كالإصابات والآلام والخسائر المادية، كما أن هذه البيان لا يجيب عن الألم الذي يواجهه المتعرض للكارثة الطبيعة قبل موته بينما، في مقابل الذي يموت في نومه مثلاً، فلا يتعرض – حسبما نعلم – لنفس الدرجة من الألم، وقد مرت الإجابة عن كل هذا في الجواب الأول.
ثالثاً: إن التفسير السلبي للأحداث والظواهر الكونية ناتج عن نظرة الإنسان الضيقة لاستهدافه هو أو من يحب بهذه الأمور فقط، بدون النظر إلى النتائج العامة الحاصلة منها، فمثلا الزلازل - كما أثبت العلم - تؤدي إلى استقرار قشرة الأرض مع وجود حركة المعادن في الأعماق، وكذا حصول البراكين التي ترسل السائل الصخري الزائد إلى الخارج وانبعاث الغازات على أثر هذه حركة المستمرة.
لنستعن بمثال عرفي لتوضيح هذه الفكرة، وهو إقدام الحكومات المحلية في المدن على إزالة بيوت مسكونة لأجل إنشاء جسر يفك الاختناقات المروية عن منطقة ما، إن الضرر الحاصل من هدم البيت في المثال تقوم الحكومة بتعويضه بشكل كبير عادة لأجل مصلحة عامة أكبر.
إن هذا التصرف يقبله منطق عموم الناس، وكذا الأمر بالنسبة لبعض الأحداث الكونية التي يعتبرها البعض شراً، فإن الضرر الحاصل منها يعوضه الله تعالى لمن استحق التعويض في مقابل المنفعة الكبيرة التي يريدها الخالق من هذا الحادثة والظاهرة الكونية أو تلك.
المصادر:
(1) الأنعام: 73.
(2) فاطر: 15.
(3) الحديد: 3.
(4) المؤمنون: 15.
(5) النساء: 40.
(6) آل عمران: 18.
(7) الطلاق: 7.
(8) الكهف: 49.
(9) الإرشاد: ج1/ ص225.
(10) نهج البلاغة – قسم الحكم – رقم470.
(11) شرح نهج البلاغة: ج20/ ص227.
(12) الزمر: 42.
(13) ابن نباته السعدي.