سيناريو الذاكرة
10-05-2019
خاص صدى الروضتين
الإساءة والمعروف:
تتميز إمكانية التعليم سابقاً بروح البساطة، سعياً الى ترسيخ المعلومة وزرع مبادئ التربية الصحيحة عند التلاميذ من خلال الاعتماد الى السرد القصصي لحكايات تبقى في الذاكرة، وكل تلميذ من تلاميذ ذلك الامس تجده يحمل في ذاكرته الكثير من الذكريات والدروس والعبر، حيث كان المعلم يمتلك ثقافة شعبية كبيرة.
ومن الحكايات التي كان يرويها لنا معلم الرابع ابتدائي الأستاذ عبد الكريم حنون، دخلت الذاكرة برشاقة، وحين كبرنا صرنا نحكيها لأولادنا رغم انني أرى البعض منها على صفحات الانترنت، لكنها تبقى هي ابنة جيلها.
يقول الأستاذ عبد الكريم: كان يا ما كان.. صديقان يعيشان معاً ليل نهار، ويلعبان على النهر وفي الحدائق، تنازعا يوما في جدال، فضرب مالك صديقه تحسين على وجهه، وإذا بتحسين يتألم، وبينما صديقه مالك ندم كثيرا على تطاوله، كتب تحسين على الرمل هذه العبارة: (اليوم ضربني أعز أصدقائي مالك على وجهي).
صارت الضربة تصحو في قلبه ليل نهار، وتحسين يحاول ان يتناساها اكراماً لصديقه، وذات يوم ذهبا الى النهر ليسبحان، علقت قدم تحسين في الرمال، والغريب أن الرمال بدأت تتحرك تأخذ تحسين الى الموت، ركض نحوه مالك ومسك قدميه وسحبه نحو النجاة، فوجده يحفر على الصخر: (اليوم أنقذني صديقي مالك من الموت).
قال الأستاذ عبد الكريم موضحاً غاية الحكاية ومفهومها ومعناها، قدم تحسين لنا درسا مهما، عندما يؤذينا أحد ما علينا ان نكتب ذكرى أذاه على الرمال، حيث رياح التسامح يمكن أن تمحو ذلك الأذى، ولكن عندما نضع المعروف نحتا على صخرة حيث لا رياح تقدر أن تمحو ما ننحت من معروف، تكتب الإساءة على الرمال، وينحت المعروف على الصخر.
الامتحان الحقيقي:
كان التميز في كربلاء يظهر بصورة سريعة حتى لو كان هذا التميز يختصر على مستوى البيت الواحد، وتجلت سمعة ام عصام بأنها امرأة حريصة على أداء الصلاة لأبنائها ولطالباتها؛ كونها مديرة ثانوية للبنات، وتركز على مفهوم صلاة الفجر والنهوض لأداء صلاة الفجر.
كانت أم صلاح تنهض قبل صلاة الفجر، وتعد الأبناء للصلاة توقظهم واحداً واحداً، تكاسل صلاح يوما للنهوض الى صلاة الفجر مع الحاح امه بذلك فهي عجزت عن ايقاظه، تركته ولكي توجه له العقوبة التي يستحق؛ لكونه تكاسل في صلاة الفجر، تركته في سريره وخرجت الى الدوام، وهي تعلم أن لديه امتحاناً مهما، لكنها أصرت على عدم تنبيهه، وحين وجدته الظهر منفعلاً:ـ ماما لماذا تركتيني نائماً؟ ألا تدرين يا ماما، اليوم عندي امتحان مهم، فقالت حكمتها التي صارت مناراً يقتدى بها عند أهالي المدينة: والله رأيتك فشلت في امتحان الآخرة، ولم يعد يهمني نحاجك في اختبار الدنيا.
المصحة النفسية :
سألت يوماً أبي (رحمه الله) عنه؛ لأعرف قصته؟ فقال لي: هو مريض وصريع هوى، لم افهم معنى ما قال، وكنت اظنها عيبا فاستحيت، ولكونه يمدنا بصلة قرابة فاخباره في متناول فضولي، كان الشاب شارد الذهن لا يقف عند احد او مع احد، كنت اراه يتجول منفردا وعلى وجهه علامات البؤس، مسكين يتمتع بكل ما يمتلك الشاب من هدوء ورزانة وخلق قويم الا انك ترأف لحاله حين تجد الحزن في عينيه يغور الى أعماق نفسه.
شاب أراد ان يتزوج فخطب الأقرب الى روحه ونفسه ومن عرشت في قلبه الامنيات واذا بها ترفضه، لتحوله الى انسان محطم، اما انا مع عقلي الصغير كنت لا اعرف لمرضه معنى، وكنت رغم صغر سني وبراءة عواطفي اشعر ان هذا الانطواء غير مبرر.
المهم ان اغلب أهالي باب الطاق يعرفونه ويتعاطفون معه، احد أصدقائه بقي يواظب على زيارته وينفتح به لينسيه عزلته المريبة، وتجرأ صديقه يوما ليفاجئه، ففاتحه بموضوع مراجعة طبيب نفساني، تحدى نظرة المجتمع والعادات والتقاليد وما يمكن ان يقولوه، وقبل مراجعة المصحة النفسية، شخصيته الجذابة هي التي حصنته من اذى أطفال المحلة، كنا نحترم وجوده ونحاول ان نتقرب اليه ولم نعده يوما مجنونا، وانما مريض، فهو هادئ رزن، لم يلفظ يوما ما يزعج احداً.
حين دخل الى المصح النفسي تعرف على طبيبة نفسانية حاورته، وأصبحت حديث كبار المحلة وتوقعاتهم ان الطبيبة قد اعجبت بشخصيته، وتسربت الى المحلة ما قالته له: (ان المجنون ليس انت، بل المجنونة من رفضتك)، قسم من العقلاء اعتبروا هذا الكلام هو مرحلة من مراحل العلاج النفسي.
حاولت الطبيبة من خلال هذا التحفيز إعادة الثقة لنفسه، لكن بعد أيام انتشر خبر خطوبته من الطبيبة النفسانية، واشعر ان قضيته كانت في كل بيت وعلى كل شفة بما امتلكت من اثر طيب واستقبلته محلة باب الطاق تبارك سلامته وخطبته، وصار الكل يحلم كيف سيشارك بمحفل الزفاف، هكذا هي محلاتنا القديمة وناسنا يفرحون لفرح أي بيت ويحزنون لحزن أي فرد يعيش بينهم، تذكرت هذه الحكاية، وأنا استقبل ابنه الذي جاء ليعودني في مرضي متمنيا لي السلامة.
التغيير:
كان لدينا في محلة المخيم رجل صاحب عائلة صغيرة وبيت ايجار وزوجة محترمة استطاعت كسب احترام الجيران، هذا الرجل جاءه ميراث كبير غير متوقع ولم يحسب له حسابا يوما، لذلك قرر ان يغير حياته بجميع مفرداتها، اشترى بيتاً جميلاً وسيارة، وقرر ان يهمل زوجته الفقيرة؛ كونها أصبحت لا تليق بمكانته..! وغيّر اخلاقة وطيبته ونظرته ولم يهتم حتى بالسلام على الناس، تزوج الثانية والثالثة والرابعة، ولم يكتف من الحياة.
ذات يوم تعرض لحادث سير افقده الحركة، وأصبح مقعدا لا حول ولا قوة له، تركه الجميع والزوجات تخلين عنه، ولم يبق لديه سوى بيته، الذي آزره في محنته، وبقيت بقربه تراعي متطلباته، نظر الى وجهها وقال:ـ هل اخبرتك يوما يا زوجتي انك جميلة؟ قالت له:ـ انها المرة الأولى..! شاء الله سبحانه تعالى ان يهبه العافية، فعاد لطبيعته وادرك حينها ان المال الحقيقي هو محبة الناس، لذلك اصبح ملاذ الفقراء والمحتاجين.
الأبواب المفتوحة:
طُرد رجل من عمله، وأصيب بصدمة كبيرة، وغضب وحزن وأحس بالإحباط واليأس وشاركه جميع الجيران بهذا الحزن، فتواصلوا مع عائلته؛ كي لا تجوع، لكن لم تطل به الدهشة، فقرر أن يرهن البيت ليبدأ بمشروع، وكان أول مشروع هو بناء بيتين صغيرين، وتوالت عليه مشروعات صغيرة، حتى أصبح متخصصاً في بناء البيوت الصغيرة.
وبعد خمس سنوات، وإذا به من اغنياء كربلاء، وقام ببناء سلسلة عمارات وفنادق مهمة في المدينة، يقول الرجل: فهمت في حياتي درساً واحداً ومهماً ان الله سبحانه وتعالى شاء ان يغلق في وجهي باباً، ليفتح أمامي طريقاً افضل لي ولأسرتي وللجميع .
الزوجة الثانية:
لاحقها كابوس مرض الفشل الكلوي، فقلب حياتها رأساً على عقب، صارت تعيش حياة أخرى، اهملت البيت والزوج والأطفال، وتعاطفت معها جميع بيوت محلتنا إلا ان الزوج اعلن رغبته بالزوجة الثانية، وانقلبت الدنيا وتدهورت حالتها الصحية اكثر، تزوج من انسانة ابنة بيت، واهل وناس طيبين، وكانت الزوجة الثانية مسالمة تسعى لنيل رضى المريضة بدأت بملاطفتها ومساعدتها والتقرب منها، لكن الزوجة المريضة أغلقت كل الأبواب ولم تعطي طريقا للكلام، وكانت تظن انها تشمت بها..!
وسعت الزوجة المريضة لطردها، وحدث الإبعاد التام، وطُلّقت الزوجة الثانية، لكنها ظلت صابرة محتسبة لأمر الله تعالى.
وبعد مدة تدهورت الحالة الصحية للزوجة الأولى اكثر فأكثر، وصارت تدعو الله بحرقة حتى أصبحت تنتظر رحمة الله، اخبروها بوجود متبرع وأجرت العملية، ونجحت، وأصبحت المريضة انسانة طبيعية، واختفى كابوس الزوجة الثانية من حياتها.
عندما راجعت المستشفى عند الخروج، اذا بها تستلم رسالة من المتبرعة، كتبت فيها الحمد لله على السلامة، انا لم أشعر بالغيرة يوما منذ ان تزوجت زوجك، وكانت الفرصة كبيرة ما دام الخصم ضعيفاً، لكني كرهت ان ألعب هذا الدور؛ لأني كنت أتمنى لك السعادة، ولهذا تبرعت لك بكليتي كي تسعدي بالحياة، وتطمئني أن لا تدخل في حياتك زوجة ثانية .!.