من ذاكرة الانتفاضة الشعبانية في كربلاء المقدسة (آذار 1991م/ شعبان 1411هـ)
24-04-2019
هاشم الصفار
من ذاكرة الانتفاضة الشعبانية في كربلاء المقدسة
(آذار 1991م/ شعبان 1411هـ)
الأوضاع العامة في مدينة كربلاء المقدسة قبل الانتفاضة:
المجالس الدينية:
مجالس التوعية الدينية والمحاضرات كانت حصراً -وكما هو معروف- تقام في البيوت، وبأجواء يشوبها التعتيم خوفاً من تقارير البعثيين ورجال الأمن التي تودي بصاحب البيت، وكل من يرتاد هذه المجالس الى الاعتقال والتحقيق، وإلصاق تهمة الانضمام للأحزاب الدينية المحظورة..! وليس بالضرورة أن تكون هذه المجالس للإعداد للانتفاضة، أو القيام بأمر مسلح ضد النظام، فهو أمر كان مستبعداً بحكم القبضة الحديدية الدموية للنظام المقبور، ولكنها وبالرغم من كل تلك المخاوف، كانت تقام وبشغف وإقبال ديني من قبل الجموع الشبابية التائقة للتوعية الدينية، والبقاء على الخط الحوزوي الرسالي، والنهج الحسيني الثائر الرافض للظلم والطغيان.
الحريات:
لا توجد حريات بالمعنى المتعارف حالياً، من حرية التعبير عن الأفكار والعقائد الدينية، وتعدد الوسائل الاعلامية والنشر، بل كان الإنسان العراقي محاصراً من كل الجهات، وبمعنى أدق كان سجيناً في وطنه الكبير، ومحتلاً من قبل عصابة البعث المتسلطة بالنار والحديد والمعتقلات والمشانق.. ومن يتحدث عن سلبيات الحكومة والرئيس والحزب والحروب والأوضاع المتردية، فمصيره التقارير الحزبية والأمنية والاستخباراتية والمخابراتية.. التي تودي به بما لا يقبل الشك الى السجون والإعدامات ويكون نسياً منسياً..!
الوضع الاجتماعي:
كانت الحالة الاجتماعية يرثى لها، فأغلب العوائل والأسر العراقية قد فقدت أبناءها في الاعدامات، والتهجير، وحروب النزوات الصدامية العفلقية ومغامراته الجنونية التي أودت بالوطن الى مجاهيل وظلمات وأنفاق مظلمة وملايين الأرامل واليتامى والمعاقين.. فلا تستطيع في بيتك أن تتحدث عن صدام وزبانيته واجرامهم الدموي، فالعيون والجواسيس في كل بيت وشارع وزقاق..! الأمر الذي أدى الى خنق العوائل، وتقييد حركتهم وحريتهم حتى في التنقل من مكان لآخر.. أين تذهبون ولماذا..؟ وأين أبوكم..؟ وأين الأخ الفلاني والعم الفلاني.. وأين الخال والى أي جهة ينتمي..؟ وهكذا سلسلة طويلة من التساؤلات والتحقيقات في الشوارع والسيطرات والطرق الخارجية..!
الوضع الاقتصادي:
لم يكن الوضع الاقتصادي بأفضل حال من بقية الأوضاع، فما يدخره المواطن بجهده وتعبه وعرق جبينه، يؤخذ منه قسراً إما رشاوى لأتباع النظام البائد لإطلاق سراح فرد ما، أو تسقيط تقرير أو تهمة ما، أو حتى لتسهيل أمر إقامة محفل ديني..! فضلاً عن غزوات رجال الأمن، ورفاق الحزب المقبور على المحلات والكسبة، وإجبارهم على دفع تبرعات تحت ذرائع ومسميات شتى..! كما لا تخفى المبالغ الطائلة التي كان يدفعها الجنود للضباط لغرض الاجازة، أو الاسراع في التسريح من الخدمة العسكرية، أو النقل الى أماكن قريبة من سكناهم، بعيدة عن المعارك والمناطق الساخنة..! وغيرها من الأمور الكثيرة التي تتسبب في استنزاف قدرات المواطن مادياً، وجعله يراوح في مكانه دون أمل في بناء بيت، أو اقامة أي مشروع يسترزق منه..!
الوضع السياسي:
كانت السياسة برمتها في قبضة النظام البائد، فلا تمثيل يذكر للشعب في حكومة ولاؤها المطلق للطاغية وأتباعه وأقربائه..! ولكن الأمل في التغيير والاطاحة بصدام وجيشه المنهار، قد تنامى بعد هزيمته في الكويت، وانسحابه المذل بعد شهور من مطالبة دول العالم له بالانسحاب، وحفظ الشعب العراقي من الدمار..!
عيون السلطة:
الأيام الأخيرة قبل الانتفاضة الشعبانية المباركة، شهدت انحساراً واضحاً وملموساً في هيبة رجال الحزب والأمن، فلم يعد هناك أحد يعير لهم الأهمية؛ بسبب حالة التذمر والسخط من الأوضاع المتردية للبلد؛ جراء الحروب والحصار الاقتصادي الذي أخذ مفعوله يتغلغل في نفسية الشعب، وقدرته على التحمل.. لذا نستطيع القول بأن كل البوادر كانت تشير لأمر جسيم ما سيحدث، من قبيل انقلاب الجيش المنهزم من الكويت على ضباطه، أو قيام انتفاضة عارمة تقضي على أزلام النظام، وتخلص البلد من عقود مظلمة من الحكم المستبد الجاثم على صدورهم.
أصداء تحرير مدن الجنوب من البصرة والعمارة:
كان أهالي كربلاء المقدسة يراقبون ما يجري من أحداث عن كثب، ويعدون العدة للمشاركة في أعظم انتفاضة شعبية شهدها العصر الحديث، وبعد وصول الأنباء عن تحرير مدن الجنوب من الاحتلال الصدامي البعثي البغيض، تلاحم الشباب الرسالي الحسيني المؤمن بقضيته العادلة في العيش حراً كريماً يأبى الظلم والضيم، ويأخذ بأسباب النمو والتطور العمراني والإنساني، ففي كل منطقة وحي سكني، هناك لفيف من الشباب المجاهد يتداولون في موعد البدء بالشرارة الأولى للانتفاضة المباركة، وكانت هناك أخبار مؤكدة يتناقلها الأهالي عن انطلاق الثورة في البصرة، ومسير الثوار عبر المحافظات الجنوبية واحدة تلو الأخرى، الى أن تصل كربلاء وينضم إليهم المجاهدون فيها.
العفوية أم التخطيط المسبق لاندلاع الانتفاضة..؟
من خلال الشرارة الأولى لاندلاع الانتفاضة في كربلاء بعد ظهيرة الثلاثاء الساعة الثانية والنصف من اليوم الخامس من آذار 1991م لمسنا عفوية الانتفاضة الشعبية، حيث ظل الشباب يهتفون في الشوارع بعبارات الجهاد ضد الزمرة الصدامية، غير مبالين بالأجهزة القمعية من أمن، ومخابرات، وحزب، وفدائيي المقبور، ومرتزقة.. الخ، ثم انطلقت صوب المدارس الحكومية القريبة للحصول على السلاح الذي كان مكدساً فيها، بعد أن ولى الحراس هاربين..! وبعد سيطرة المجاهدين على مقرات الحزب البائد، انطلقوا لتحرير مبنى المحافظة، حيث استمر القتال وتبادل اطلاق النار فيها حتى منتصف الليل.
وقد برز مجموعة من القادة في كل منطقة من مناطق مدينة كربلاء، وهم الذين كانوا ينظمون عملية توزيع المجاهدين، وإرسال المجاميع الجهادية لأطراف كربلاء: (الرزازة، الحر، عون.. وغيرها).
وبطبيعة الحال التحضيرات النظرية كانت موجودة، ولكن ليست كمجاميع أو تشكيلات منظمة فاعلة كما حصل بعد اندلاع الانتفاضة، إذ سرعان ما تشكلت في كل منطقة –في المدارس والجوامع والحسينيات- مجاميع جهادية، يتجمع فيه المجاهدون وهم بعمر الورود؛ ليقولوا كلمة الحق في الانتصار للوطن ولكربلاء المقدسة ضد طغيان البعث وجبروته.
دور المرقدين المقدسين في الانتفاضة الشعبانية:
الادارة المركزية:
القيادة ومركز القرار كان في المرقدين الشريفين.
الادارة الطبية:
كانت هناك مفارز طبية في المرقدين الشريفين لمداواة الجرحى.
الادارة التموينية:
تم تجميع المواد التموينية في المرقدين الشريفين؛ لغرض توزيعها على العوائل اللاجئة للحرمين، وكذلك توزع على المراكز والتجمعات الجهادية الموزعة في مناطق شتى.
الجهادية:
تمركز غالبية المجاهدين في داخل وخارج المرقدين الشريفين ومنطقة بين الحرمين، ويتم أيضاً ارسال قوات الى المناطق التي تنعدم فيها تشكيلات مناطقية دفاعية.. ومن المعروف أن كل تجمع جهادي كان يدافع عن منطقته، فضلاً عن الذهاب بعيداً الى أطراف المدينة المقدسة إن تطلبت الأوامر القيادية ذلك.
السجن والتحقيق:
كان في المرقدين غرف للتحقيق في المشتبه بهم انضمامهم الى الأجهزة القمعية لنظام البعث المقبور، فضلاً عن إيواء الجنود الأسرى الذين كانوا يسلمون أنفسهم الى المجاهدين في مناطق القتال.. وكان يتم التعامل معهم بإنسانية وفق تعاليم الدين الاسلامي.
مبلغ البيانات وإذاعتها:
كانت التبليغات تتم عبر مكبرات الصوت في منائر المرقدين الشريفين، ومنها أيضاً يتم شد العزائم، وتقوية الروح المعنوية للمجاهدين.
الانتفاضة في الأحياء الكربلائية:
تمركزت الانتفاضة المباركة بشكل كبير في المرقدين الشريفين ومركز المدينة المقدسة، أما الأحياء الكربلائية، فتوزعت بين مساندة الانتفاضة ومواجهة الجيش الصدامي، وبين الخروج بعيداً الى البساتين والمزارع؛ خوفاً من بطش النظام الدموي، وقصفه العشوائي.
علاقة المنتفضين برجال الدين والمرجعية في النجف الأشرف:
كان هناك بعض الشباب المؤمن يحملون صوراً كبيرة على صدورهم للمرجع الأعلى سماحة السيد أبي القاسم الخوئي(قدس سره)، وبعض الفتاوى الدينية الخاصة بالحفاظ على الممتلكات العامة، وأرواح الناس.. الأمر الذي يدل على وجود تواصل بين القواعد الشعبية المجاهدة، وبين المرجعية الدينية في النجف الأشرف.
الدعاية الصدامية، وأثرها في نفوس المنتفضين والأهالي:
كانت الطائرات الصدامية تحوم في سماء كربلاء، وتدعو أهالي كربلاء عبر مكبرات الصوت لإخلاء المدينة؛ تمهيداً لاقتحامها من قبل الجيش الصدامي الدموي، وقد تعرضت تلك الطائرات الى القصف من قبل المجاهدين، وتم اصابة العديد منها، وقد رأينا واحدة منها قد أصيبت في مدخل كربلاء من جهة باب بغداد.. وقد تفاوتت الاستجابة للإخلاء بين شخص وشخص، ومنطقة وأخرى بحسب الظروف المحيطة.. ولكن من بين المنتفضين وحملة السلاح لم تكن هناك استجابة مطلقاً، أو حتى التفكير بالاستسلام، وإنهاء المظاهر المسلحة.
التوجه العسكري لأزلام النظام صوب كربلاء:
توجهت القوات الصدامية صوب كربلاء في محاولة لاقتحامها من جهات عدة: (طريق بغداد – النجف – الحر – الرزازة) بدأ الهجوم على كربلاء بالقصف العشوائي بمدافع الهاون الثقيلة والمتوسطة، ثم الدبابات والعجلات المدرعة، وناقلات الأشخاص، والديمتروف المحمول على سيارة (البيك أب)، وقد حصل المجاهدون على واحدة منها أثناء انهزام القوات المعادية في شارع العباس A بعد أن واجهوا صلابة واستماتة من الشباب المجاهد المدافع عن مدينة أبي الأحرار الإمام الحسين A.. علماً أن عمليات انسحاب القوات المهاجمة وانسحابهم من محاور تقدمهم، تكرر أكثر من مرة، تارة لعدم قناعة الكثير من الجنود بالمعركة الباطلة ضد أبناء شعبهم، وتارة لحجم الاستماتة، وكثافة النيران التي تواجههم من كل مكان.
طبيعة العمليات العسكرية القتالية:
العمليات العسكرية القتالية شهدت أساليب عدة بدأت بالقصف المدفعي، ثم التقدم بالدبابات والمدرعات روسية الصنع، وبعد فشلها وحرق معظمها بقذائف (الآر بي جي سفن)، تغيرت خططهم باتجاه تسلل قناصيهم ليلاً، وأخذ مواقع استراتيجية مهمة على سطوح البنايات والعمارات العالية، وقطع الطرقات صباحاً على تحرك المجاهدين، فتم بذلك اصابة العديد من شبابنا المجاهد، وشلت تحركهم من منطقة لأخرى.. وبذلك استطاعوا السيطرة وعزل الكثير من المناطق بعضها عن بعض؛ تمهيداً لاقتحامها وتفتيشها واحدة تلو الأخرى.
أما تجريف البساتين والمباني، فتم بعد السيطرة على كربلاء كإجراء انتقامي من المدينة وأهلها الصامدين الذين سطروا أروع لوحات التضحية بوجه الطغاة، وكبدوا القوات الدموية خسائر فادحة في الأرواح والمعدات.
أساليب السلطة القمعية ضد أهالي كربلاء المقدسة:
الجيش دخل منتقماً، ومارس شتى الممارسات اللانسانية البشعة الدموية ضد المدنيين العزل، ولم يرعَ حرمة لأحد، فبعد السيطرة على المدينة المقدسة من قبل السلطات الصدامية الجائرة، قامت بحملات اعتقال واسعة للرجال ومن كل الأعمار، حتى طالت بعض النساء بتهمة الاشتراك والدعم للانتفاضة الجهادية، وتمت عمليات الاعدام الجماعية في المرقدين الشريفين والمناطق المحيطة، ومنطقة بحيرة الرزازة.. والبقية نقلوا الى سجون وزنزانات بغداد: (الأمن العامة، الرضوانية، الفضيلية، وغيرها).
وكانت هناك عمليات إعدام في منطقة حي الحسين حيث مكان اعتقال المجاهدين هناك في بعض المخازن، قبل نقلهم الى معتقل فندق كربلاء.. ويتم الاعدام بعد تشخيصهم من قبل أزلام النظام الدموي والمتعاونين معهم، وفي بعض الأحيان الإعدام يطال الجميع سواء شارك بالانتفاضة أم لا.. فالقتل عشوائي ويتبع مزاجية المجرمين وأهوائهم.
كما تم مشاهدة الكثير من حالات الاعدام في معتقلات بغداد، منها ما حصل في أحد السجون حين اكتظت بالمعتقلين، فقاموا باخراج الكثير منهم خارج السجن، وإعدامهم كل ثلاثة على حدة، يتم ايقافهم على الحائط ورميهم بالرصاص، ثم يقوم غيرهم وهكذا..
محصلة الانتفاضة:
في الحقيقة الانتفاضة الشعبانية المباركة حققت الكثير من الانتصارات، وكان التلاحم الشعبي رائعاً، ولكنه افتقد الى الدعم العسكري واللوجستي، والامدادات، وافتقد الى الاعلام والرأي العام العالمي الذي بقي صامتاً مكتوف الأيدي، يرى شعباً يُقمع وتُمارس ضده اساليب دموية وحشية، ولم يحرك ساكناً.
ومع مرور أيام بان النقص في العتاد والمخزون الغذائي، وانقطاع الماء عن البيوت، فضلاً عن خروج آلاف العوائل الى البساتين والمقابر والمناطق النائية؛ خوفاً من بطش الجيوش الغازية التي كانت بكامل عدتها وأسلحتها وتجهيزاتها.. مما أدى الى رجحان كفة الجيش على الشباب المنتفض الذي تشتت بين من قرر الخروج مع عائلته، وبين من بقي صامداً واستشهد، وبين من تم اعتقاله واعدامه، وبين من خرج من المعتقلات بقدرة قادر..!
وبالرغم من كل المآسي التي رافقت الانتفاضة وبعدها.. إلا انها أثبتت للعالم أن الشعب بمقدوره أن يقلب الطاولة والمعادلة على الطواغيت والمستكبرين.. بتلاحمه، بصبره، بجهاده الصادق المبني على التعبئة الاسلامية الحسينية الجهادية الحقيقية البعيدة عن مغريات الحياة، أو الانتماءات التحزبية والطائفية.. وما جرى من تعبئة وانتصارات فيما بعد من قبل رجال الحشد الشعبي المقدس، وانتصاراتهم على أعتى عصابات الأرض الاجرامية، إلا شاهد حقيقي على تبرعم الانتفاضة، وثمارها الممتدة الى كل الأجيال.