محاورة مع كتاب.. (اتجاه الدين في مناحي الحياة) لسماحة السيد محمد باقر السيستاني (دام عزه) ج9
27-03-2019
علي الخباز
محاورة مع كتاب..
(اتجاه الدين في مناحي الحياة)
لسماحة السيد محمد باقر السيستاني (دام عزه)
- حدثنا عن اهتمام الدين بالعدالة؟
الكتاب: إن العدالة هي أحد المفاهيم الأخلاقية بحسب ادراك الضمير الإنساني، وايفاء بالحقوق الفطرية المقررة على أساس تحري الصلاح والحكمة، وقع الاهتمام بالعدل في الدين كأساس في السلوك السليم، وهي من جملة صفات الخلق الإلهي في التعامل مع الخلق ((قائماً بالقسط))، ((إن الله لا يظلم الناس)).
وجعل العدل من غايات بحث الأنبياء، وهو العنوان العام للتشريع في الدين، وهو العنوان العام للقضاء بين الناس، ومن ثم اعتبر في الشهادة عدالة الشاهد، والزم الانسان بأن يجري على مقتضى العدل حتى في حال القتال بين المجموعات المختلفة، بأن يسعى الى الإصلاح بين الطرفين بالعدل، ويكون عوناً للمظلوم على الظالم، وجعل العدل هو السلوك السليم للتعامل الاجتماعي بين الناس، وألزم المؤمنين بمراعاة العدل حتى مع من يبغضونه, وأمر الله المؤمنين أيضاً في التعامل مع غير أهل الدين بالقسط، وبتحري العدل مع الفئات المستضعفة كاليتامى.
وأوجب القسط في التعامل الأسري حتى أن الرجل اذا لم يأمن في حال الزواج من امرأة ما أن يعدل معها بأخرى، بشرط أن يعدل بين امرأتين، وطلب من الناس التعامل مع الله سبحانه وتعالى بالعدل وبالإذعان به وبمعروفه، ولم ينزل الله سبحانه العذاب على قوم في الحياة الدنيا إلا في حال امعانهم في الظلم، وذكر الله تعالى أن موازين يوم القيامة تجري بالقسط.
- مدى توافق أنباء الدين وتعاليمه مع العدالة؟
الكتاب: إن مفهوم العدل كسائر المفاهيم العامة ذو مساحتين، مساحة يصدق فيها صدقاً بيناً وواضحاً، ومن البديهي أن يحتاج ادراك الحق فيه الى إحساس فطري مرهف، وأن يتوقف تشخيص الاستحقاق، فكم من شيء يعتقده الانسان عدلاً واستحقاقاً، وتبدو له مضاعفاته، ويمثل وجود المساحة الثانية اختلاف القوانين الوضعية، كعقوبة الإعدام مثلاً ضرب من العدالة الواجبة، بينما لا يراها البعض كذلك، وهناك ضرورة الفرز بين مفهوم العدالة ومفاهيم أخرى، فالفرق موجود بين مفهوم العدالة وبين مفاهيم أخرى يشعر الانسان تجاهها بشعور إيجابي. العدالة مفهوم ينطوي على رعاية جميع العناصر كمفهوم المساواة ومفهوم الرحمة، فهي تنطوي على النظر الى بعض تلك العناصر.
- هل هناك في رأيكم فرق بين العدالة والمساواة والعدالة والرحمة؟
الكتاب: مفهوم المساواة يشعر تجاهه المرء بشعور إيجابي، وينظر الى التفضيل من المنطلق الأخلاقي التربوي، هذا المعنى لا يخالف العدالة بل يوافقها, فلا يصح مثلاً أن نساوي المحسن بالمسيء، ولا يمكن تسوية الناس الذين يختلفون في درجات الاحسان والإساءة بل يقدر كل بقدره، وهذا الأمر ضرورة تربوية كما هو ضرورة أخلاقية, فإن هذا لا يبرر تسويته بالتلميذ الفاضل المتميز، حتى وإن شعر المعلم بالعطف على التلميذ المفضول لظروفه.
وأما تخصيص الأفضل فليس له ظلم للمفضول، وقد يكون تركه جفاء للفاضل، وهذه نقطة جديرة بالتأمل, فالفرق بين العدالة والرحمة حيث أن مفهوم الرحمة هو أيضاً مفهوم يستهوي الانسان بفطرته، ليست كل رحمة موافقة للحكمة أو موصوفة بالفضل، فالحكمة والفضيلة يعتمدان على ثنائية اللين والحزم، ومن العدالة ما لا يستطيع الانسان غالباً ادراكه، ولا يمكن معرفته من خلال تجربة معينة وحالة مفردة، فإنه يشتبه في تشخيص مقتضيات العدالة خلال الآثار المتوقعة للسلوك الخاص، فالتنظير في البحث يغري الباحث بالمثالية المفرطة بعيداً عن سنن الحياة.
ومن العناصر الدخيلة في تصنيف العمل واعتباره عادلاً أو لا قد يؤنب المرء طفلاً منطلقاً من لون بشرته، أو من شكله، فهذا التأنيب فيه ظلم قبيح قد يؤنبه منطلقا من تشجيعه على تهذيب تصرفاته وسلوكه واتقان دراسته، فهذا التأنيب أمر حسن ولائق متى كان موافقاً للحكمة، بل يكون احساناً الى الطفل.
وملاحظة النصوص الدينية لأي تشريع في الدين لم يكن منطلقاً من احتقار الآخرين بل ينطلق من الاهتمام بقواعد الحياة وسننها ومقتضياتها التساؤل عن مدى موارد ما جاء في الدين مع العدالة يتعلق بالفعل التكويني لله سبحانه وتعالى في هذه الحياة الدنيا من قبيل وجوه الشر والمرض والخراب الذي يحصل وفق السنن التي سنّ عليها الكون والكائنات وما يتعلق بالحياة الأخرى مما جاء في الدين من جزاء شديد للأعمال, وما يتعلق بالتشريع الديني حيث أن مجموعة من الأحكام تتضمن اختلاف الناس في الاستحقاقات والحقوق.
اما على أساس الاختلاف في الخلق كالذكورة والأنوثة، وأما على أساس الاختلاف في الدين وعليه قد يطرح ان هذه الاحكام تخالف العدالة؛ لأن مقتضى العدالة التسوية بين الناس في الحقوق والاستحقاقات كلها، فأي تفاوت تشريعي بينهما يكون تمييزا غير مستساغ بحكم الضمير الإنساني, يقيناً بعدالة الله سبحانه وتعالى مع خلقه وتحريه للعدالة حسبما يتاح في تشريعاته هو فوق يقيننا بثبوت أي تشريع يكون ثبوته او استمراره متعلقاً بضرب من الاجتهاد.
وحقيقة الدين لها أعمق وأوسع وأكبر بكثير من عدة مفردات تشريعية تحتمل في حال افتراض مصادمتها بحركة العدالة، يتعين تغييراً أو ترديداً, ليس هناك من تشريع ديني يكون ثبوته في الدين قطعياً على حد يوازي ثبوت أصل الدين؛ لأنه لا يتفق في حال وروده في القرآن الكريم ويكون اصل ثبوته.
هذا النوع من الموازنة بين القضايا وتقييم مستوى اليقين مبدأ منطقي واضح يجري عليه الادراك الإنساني بالفطرة في جميع مجالات الحياة. كما أن قداسة الدين لا تنفي وجود تشريعات تتغير نحو الأمثل وفق ظاهرة نسخ الأحكام في الشريعة.
- مدى عدالة الدين في شأن الاختلاف بين الناس في الخلق؟
الكتاب: انتقاص أي انسان على أساس وصف خلق عليه أمر مخالف للعدالة لا خيار للإنسان في صفاته التي خلق عليها عموماً، الانسان يقدر بالنظر الى سلوكه وسيرته الاختيارية، وحسب مستواه المعرفي ورعاية القيم الفاضلة، فإن الاختلاف في الخلق حتى لو كان اختياريا لا يوجب انتقاصه والإعابة عليه.
- هل يميز الدين الناس بعضهم على بعض على أساس التمييز القومي او الطبقي او الجنسي؟
الكتاب: بعض العقائد تجاهر بوجود مثل هذا التمييز عندها، فتقسم الناس الى اقسام بعضها افضل من بعض، وقوم أفضل من قوم وطبقة افضل من طبقة والرجل افضل من الانثى..! لكن الدين الإسلامي القويم من خلال القرآن الكريم يجاهر بأن ينطلق من العدالة المطلقة بين الخلق كلهم والمعيار الوحيد للتفاضل هو الفضيلة والتبصر في الحياة، وينفي الدين على الخصوص التمييز القومي والنسبي والتمييز بالجنس؛ كونهما يتميزان في سائد الثقافة وعدم التمييز القومي بين الخلق في الدين هو أمر ظاهر، لو كان دين الإسلام مميزاً لقوم لميز العرب على غيرهم استمالة لهم الى الإسلام، ولكن دين الإسلام لم يتعصب للعرب ولا فضلهم على سائر الأقوام.
- وما جاء من تفضيل بني إسرائيل؟
الكتاب: إن المراد بالتفضيل هو فضل الله عليهم، إذ جعل منهم انبياء، وليس التفضيل يعني انه جعل كل واحد منهم أفضل من سائر الناس، ولكن جماعة منهم أخرجوا هذه النعمة الى هذا المخرج الكاذب، وبنوا عليه العصبيات الذميمة والادعاءات الواهمة، وبالمناسبة، نذكر وجود جماعة مصفاة من أهل بيت النبي J، لما امتازوا من ايمان وثبات ونبل وزكاة أسوة بالمصطفين من السلالات السابقة، كما جاء في حديث الثقلين، وأحاديث وردت في شأن كل من الامام علي وفاطمة الزهراء والحسنين D، وتشريف قرابة النبي J من بني هاشم وبني عبد المطلب تشريفاً دنيوياً بالنظر الى حمايتهم له J في أداء الرسالة في وقت حاربه سائر قريش، وربما كانت الغاية من هذا التشريف فضلاً عن كونه عرفاناً بجهود النبي J بإكرامه في ذريته وقرابته.
وأما في ما يخص مبدأ المساواة، فالدين ينفي وجود التميز بالجنس، ويعني تفضيل الذكر على الأنثى، فالأنثى صنو الذكر، وقد اصطفى الله سبحانه تعالى من الذكور واصطفى من الاناث نساء مثل مريم B، فربما أصابت امرأة وأخطأ رجل، ومن ذلك موقف ملكة سبأ الصائب في عدم المقابلة مع سليمان بالقوة، بينما لوّح مستشاروها من الرجال بالقوة.
ان المنطلق الأساسي في الدين مساواة المرأة بالرجل في الإنسانية ومقوماتها، ولكل خاصته وصفته وامكانياته التي يكتمل بها مع الآخر، ونظرة الدين الى طبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة هي التكامل، الدور المتماثل مع دور الآخر (تكامل المتماثلين) ومن ثم لهم تكامل المختلفين أيضاً.
والدين يرى ان الرجل والمرأة يختلفان في خصائصهما اختلافاً اقتضته سنن الخلقة وتنظيم الحياة، هذا الاختلاف في حقيقته من السمات الرائعة والجميلة، من الخطأ الذهاب بمذهب التساوي بين الرجل والمرأة في الإنسانية الى نفي أي تفاوت بينهما، ومن الخطأ أيضاً أن يستغني الرجل عن المرأة في الحياة، او تستغني المرأة عن الرجل فيها، فالحياة قائمة بثنائية الرجل والمرأة بينهما يكمل كل واحد منهما الاخر.
وللمرأة نوع خصائصها المعروفة ومن ابرزها قوة العاطفة والإحساس لديها، يتأثر موقف الأم بالعاطفة واللين، ويتميز موقف الاب بالحزم والقوة، وللعاطفة بطبيعة الحال تأثير على ادراكات الانسان وقراراته بالنظر الى ان الانسان كل لايتجزأ، زيادة العاطفة لن تؤثر على الادراكات العلمية البحتة، لكنها تؤثر على القرارات العلمية والادراكات المتعلقة بها، المرأة صاحبة الاستجلاب العاطفي في غطاء من الحياء بما لا نجد مثله عند الرجل.
أيضاً المرأة هي المولد للجنس البشري بما اقتضى رعايتها؛ لأن البيئة الطاهرة والمصونة هي الأساس الأول والأعمق لسلامة التربية، واثبات هذه الفروق بين الرجل والمرأة لا يعني بالضرورة كمالاً للرجل، وانتقاصاً للمرأة بقدر ما يقتضيه.
التشريع المبني على تقدير هذه الفروق لكل من الرجل والمرأة في هذه الحياة بالمنظر النوعي العام؛ لأنه يستمد من التكوين النفسي للإنسان، الحياة العملية للإنسان على أساس عدم الفرق بين الجنسين كما تجري عليه الثقافة، على الحياة الاسرية وعلى واقع حال الرجل والمرأة وأولادهما اكثر من نفعه، التشريع الأمثل بريق عناوين جاذبة للمساواة، أساس دراسات غير دقيقة تتأثر في منحاها بالرغبات العامة والأجواء الحاكمة، الى الفوارق المشهودة واسنادها الى التربية الأسرية، والبيئة الاجتماعية، فهي فرضت القوامة للرجل في الحياة الاسرية، والمراد ان الرجل هو من يقوم على الاسرة برعايتها وحياطتها.
في شأن الجهاد نجد ان الرجل هو المكلف المضحي بنفسه ودمه حماية للمجتمع عامة، والنساء، ويناط بالرجل عموما حماية العائلة والاسرة، من الامور الشخصية التي تتعرض لها، من حيث التكوين البدني والنفسي لما تقتضيه الحرب.
وفي شأن الاداب الاجتماعية العامة نجد ايجاب مبدأ العفاف على كلا الجنسين في النظر والمظهر والسلوك، ولقد اصر الإسلام على تمكين الزوجة بعد تجربتها الأولى سواء كانت مطلقة أم ارملة من ان تتزوج من تشاء بمعروف. وقد أجاز التعدد للرجل واشترط فيه شرطاً وهو رعاية العدل بين النساء، وان حجر الرجل على العلاقة الشرعية مع امرأة واحدة مهما كانت ظروفها امر غير عملي على العموم، فضلا عن موافقة هذا التعدد مع مصلحة العوانس والأرامل والمطلقات ودوره في صيانتهن عن الخطيئة، وإجبارهن على قمع غريزة فطرية.