محاورة مع كتاب.. (اتجاه الدين في مناحي الحياة)

23-03-2019
علي حسين الخباز ‏
محاورة مع كتاب..
(اتجاه الدين في مناحي الحياة)
لسماحة السيد محمد باقر السيستاني (دام عزه)
- كيف تكون عدالة الدين مع الاخر المختلف في الدين من المنطلق الفطري؟
الكتاب: من الأمور الذميمة والمرفوضة من المنطلق الفطري هي العصبية اتجاه الاخرين ويمكن تقسيم العصبية الى ذميمية تحول دون العدل، وأخرى مرجوحة تمنع من الفضل. الأولى عصبية تؤدي الى منع الاخر من استحقاقاته الفطرية الواجبة له مثل مراعاة حرمة نفسه وعرضه وماله وما الى ذلك، وهي ذميمة؛ لأنها تنتهك حقوق الاخرين الفطرية.
اما الثانية عصبية تمنع من الاحسان الى الاخر بما لا يجب على المرء بحسب الفطرة ولكن تكون ممارساته فضيلة ونبلاً: كالتصدق غير الواجب على الفقراء واغاثة المعوزين وهذه العصبية ليست ذميمة تستوجب تقريعا ومؤاخذة، ولكنها مرجوحة قد توجب عند العقلاء ملامة وعتبا.
وموقف الدين من الاخر هو التعامل مع الاخر في اطار القسط بل الاحسان ورفض أي عصبية اتجاه الاخر حتى لو كان في الدين، وان التعاليم تتجنب النهي عن كل انحاء العصبية ضد الاخرين كالقومية والقبلية والذكورة والانوثة والمناط في النجاة هو معرفة الحقيقة والاذعان بها والفضيلة والعمل الصالح.
وحذر الدين المسلمين من نسج مثل هذه العصبيات لأنفسهم بأن يزعموا قربهم الى الله سبحانه ونجاتهم من دون سائر الناس بمجرد اسلامهم وقد بلغت بعض النصوص مبلغا كبيرا في هذا التحذير، تحذير المؤمن والمسلم والمتقي بمن راعى القيم الفاضلة ونفي الايمان والإسلام عمن انتهكها وتمكن لها فالعصبية الدينية امر ذميم ومرجوح كما هو الحال في العصبية القومية وغيرها.
وتفيد النصوص الدينية المتعرضة لتأصيل القيم الفطرية النهي عن العصبية، لمراعاة العدل حتى مع المختلف في الدين فان لم يملك المرء نفسه أن يبغضوه لبعض ممارساته اتجاهه فليملك سلوكه وتصرفه فلا يؤدي الى ظلمه، الأمر بالعدل ومصاديقه مثل الوفاء اتجاه الاخرين.
واما العصبية المرجوحة المانعة من الفضل هي عقيب التحذير ممن يكيد بالمسلمين وعلى ضوء ذلك يظهر ان من غير الوارد ان تعد الحروب والمآسي الدينية من اثار توجيهات الدين وتعاليمه، مع ان كثيرا منها وقعت بين طوائف متعددة في الدين الواحد، ولا شك ان الدين الإسلامية مثلا يرفض مراعاة اهله بعضهم على بعض، وهذا منبه على انه من الضروري الرجوع في تحقيق الموضوع الى تعاليم الدين نفسها.
- اين تكمن حقيقة العصبية وحدودها؟
الكتاب: ينبغي بذل المزيد من الاهتمام لفهم حقيقة العصبية رفعا للاتباس ولكن ليس من هذه العصبية ان يشعر الانسان اتجاه قومه بمزيد من الود والمحبة تقدير للجهة المشتركة من غير ان يحتقر الاخرين ويهمل ما يستوجبونه بجامع الاخوة الإنسانية.
والعصبية العشائرية ليست من هذه العصبية ان يشعر اتجاه عشيرته بخصوصية إضافية من الود والمحبة؛ لكونهم ارحاما له يستوجبون مزيدا من التفاعل ويرغبون بحسب تلك الوشيجة الى مزيد من التعاون لضمان المصالح المشتركة من غير ظلم الاخرين وتعسف اتجاههم.
وليس من العصبية شعور الانسان بمزية يتصف بها ونعمة كان واجدا لها فليس من عصبية الدين ان تدعي الرؤية الدينية الحقانية لنفسها فإن ذلك امر طبيعي في أي مجال من مجالات الحياة، بل تتقوم الرؤية بادعائها الحقانية لنفسها وإلا كانت نظرية راجحة او افتراضا محتملا وانما الذي يخل بالعدالة نفي وجود حرمات للاخرين على سبيل التأصيل العام، حيث أنه يجافي القانون الفطري، ويعتقد المرء بحقانية هذا الدين وصوابه فان مثل هذا الدين هو واعية الحقيقة في الحياة وندائها ولن يستطيع المرء الحفاظ عليه الا بمعرفة قدره والاقتناع بصوابه والتمسك به وهذا سائر العلوم الصائبة، فانه من الطبيعي ان يعتقد أصحابها بحقانيتها ويشعرون بالمزية من حيث الاطلاع عليها.
الدين الراشد أيضا يشعر صاحبه بأن له مزية من جهة استكماله للرؤية الصحيحة والثاقبة للحياة والاذعان بها وينبغي ان يفرق في منحى التعليمات الدينية وان يكون منحى التعليم نذير من ادرك العقيدة الصحيحة بأهمية هذا الاعتقاد هو امر لزرع الثقة في نفسه باعتقاده ولكيلا ينصرف عنه بشبهات ضعيفة وبين ان يكون منحى التعليم تحقير الاخرين وهدر حقوقهم.
ولا شك ان مثل هذا التفريق مما تجده كل جهة عامة تثقف المجتمع في اعتقادها بالمبادئ الصحيحة وليكن مثلا قوانين حقوق الانسان والمواطنة فأنه ليس من مظاهر العصبية أي تعليم او سلوك يمن ان تبرره حقانية المبدأ اذا كان هذا المبدأ حقا.
- كل دين يدعي لنفسه الحقانية بطبيعة الحال.. فيعذر أصحاب كل دين فيما يعملون به تحوطا لاعتقادهم؟
الكتاب: الصحيح تحديد التعامل المشروع بأطر عامة وفق المبادئ العقلانية العادلة التي يدركها العقل العام لكن نجد في هذا القول تعسف أيضا فان من غير الوارد ان يبنى على التسوية بين الاديان كلها بلا فرق بين عقائد جعلها شخص ما بغرض الرئاسة مثلا وبين عقيدة صائبة تكشف ابعاد الحياة وتمثل الإرادة الإلهية.
لا شك في ان الدين يعتبر الوقوف على الحقيقية والاذعان بها دون تساهل او عناد ميزة لصاحبه من جهة ما يمثله ذلك من تبصر في قواعد الحياة، وهناك أصول للتعامل مع الاخر في الدين كأصالة حرمة الانسان واصالة حرمة المعاهدة، ولا يصح ما يظن من انحصار الإسلام في المسلمين والمعاهدين، الانسان بنفسه ستوجب للاحترام في الإسلام ما لم يعتدِ او يفسد.
وربما وجه الخطاب في النصوص الملزمة بالقيم الإنسانية الى خصوص المؤمنين ويتجلى هذا المبدأ أيضا في عهد الامام علي A الى مالك الاشتر حين ولاه مصر وكان الكثير من أهلها غير مسلمين كالأقباط: (واشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم...).
وفي اية أخرى يوصي سبحانه بعدم التعرض لمن استجار من المشركين بالمسلمين رغم التوتر الشديد والعميق بين الطرفين، قام فيها المشركون باضطهاد المسلمين وتهجيرهم من ديارهم واثارة الحروب ضدهم طمعا في إزالة كيانهم واستئصال دينهم فللإنسان مطلقا حرمة في الدين أيا كان دينه ومذهبه، من جهة أن الإسلام بنفسه يستبطن ميثاقا اجتماعيا بين اهله برعاية حرماتهم ولكن من غير ان يعني ذلك مسامحة وتساهلا في الاعتداء على الآخرين.
التأصيل الأول في الدين في التعامل الاجتماعي والسياسي مع الاخر على مراعاة القيم وحفظ الحرمات والمصداقية في التعامل والالتزامات ولو ان الدول تكاتفت للعمل على مبدأ عولمة القيم وحفظ الحرمات والتكافل الإنساني العامل بنحو عام لترفع مشاكل الدولة الفقيرة والضعيفة وتكون ناصحة لها.
وقد وقى الإسلام المجتمع الإسلامي لذلك عن العصبيات القبلية والقومية والوطنية وعن الحروب التي كانت تتفق من قبل على اساسات ضيقة للقبيلة والقومية والبلد، على انه لم يلغ قيمة هذه الوشائج الفطرية في وجدان الانسان فجعل القرابة مثلا وشيجة مؤكدة لرعاية الحرمات وموجبة للصلة والتكامل من دون أن تكون عصبية ضد سائر المسلمين.
كان علي A يقول: (فالرجل يموت ويترك مالا وليس له أحد اعطي المال لأهل وطنه ممن يعيش في البلد الذي مات فيه)، حيث كان في الكوفة آنذاك جاليات من اقوام متعددة غير العرب، ومن ابعاد هذا الولاء الخاص بين اهل الدين ان إيلاء الاهتمام بهذا الجامع المشترك يجعل منها وشيجة رابطة بين اهله مما يؤدي الى تقدير ايمان المؤمن في داخل المجتمع المماثل له في الاعتقاد وتتكون بهذه الصلة بيئة تحافظ على حفظ دينه وثقافته الدينية وتكون حماية له ضد الاخطار الناشئة من التعصبات الدينية.
- كيف نضمن عدم استناد هتك الحرمات بين اهل الدين الى الدين؟
الكتاب: نلاحظ كثرة القتال الداخلي بين المسلمين منذ صدر الإسلام حتى الان ولا شك في ان هذه الاقتتالات والحروب الدينية الداخلية لم تكن تسند بحال الى توجيه الدين بالتعصب بين فرق المسلمين واسقاطه لحرماته، فهل من المعقول مثلا ان يدعي احد ان الدين هو الذي وجه الخوارج في صدر الإسلام بقتل الامام علي A بموقعه وسابقته في الإسلام؟ وكذا قتل كثير من المسلمين على أساس تكفيرهم بدعوى ارتكابهم للكبائر وبقر بطون نسائهم حتى احتج عليهم الامام علي في بعض خطبه في نهج البلاغة لكون ذلك مخالفة واضحة لسيرة النبي J؟
ومثل ذلك من وقع من قوم في هذا الزمان حتى استباحوا دماء الامنين من المسلمين وغيرهم من نساء وأطفال وشيوخ بأساليب شائنة تنفر منها الفطرة وينكرها الدين، وفي الحكومة في الإسلام وسيلة لإشاعة العدل والتوجيه نحو الفضيلة وليست غاية لذاتها فكيف يضح المرء بالغاية من اجل الوسيلة؟ ومن عدم تهذيب الاخلاق الوقوع في المزاجيات المفرطة الخارجة عن الاعتدال الإنساني وطغيان المشاعر الناتجة عن حب الرئاسة والجاه والشعور بالتحقير والتهميش مما يؤدي الى الحقد على الاخرين وعلى العموم فان المبادئ الحقة لا تكفي في تصحيح السلوك الإنساني بل تحتاج في فهمها فضلا عن تطبيقها الى حاضنة سليمة.